للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا الفناء الذي يترجم عليه الطائفة، فأَمرٌ غير هذا، ولكن وجهُ الإشارة بالآية: أنَّ الفناء المشار إليه هو ذهاب القلب وخروجُه من هذا العالم، وتعلُّقه بالعليِّ الكبير الذي له البقاء فلا يدركه الفناء، ومَن فني في محبَّته وطاعته وإرادة وجهه أوصله هذا الفناءُ إلى منزل البقاء، فالآية تشير إلى أنَّ العبد حقيقٌ أن لا يتعلَّق بمن هو فانٍ ويذَرَ من له البقاء، وهو ذو الجلال والإكرام؛ فكأنَّه يقول (١): إذا تعلَّقتَ بمن هو فانٍ انقطع ذلك التعلُّق عند فنائه أحوج ما تكون إليه، وإذا تعلَّقتَ بمن هو باقٍ لا يفنى لم ينقطع تعلُّقك ودامَ بدوامه.

والفناء الذي يترجم عليه هو غاية التعلُّق ونهايته، فإنّه انقطاعٌ عمَّا سوى الربِّ تعالى من كلِّ وجهٍ، ولذلك قال (٢): (الفناء في هذا الباب: اضمحلال ما دون الحقِّ علمًا، ثمَّ جحدًا، ثمَّ حقًّا).

قلت: الفناء ضدُّ البقاء، والباقي إمَّا باقٍ بنفسه من غير حاجةٍ إلى من يبقيه، بل بقاؤه من لوازم نفسه، وهو الله تعالى وحده، وما سواه فبقاؤه بإبقاء الربِّ تعالى له، وليس له من نفسه بقاء، كما أنَّه ليس له من نفسه وجود، فإيجاده وإبقاؤه من ربِّه وخالقه، وإلَّا فهو ليس له من نفسه إلَّا العدمُ قبل إيجاده، والفناءُ بعد إيجاده. وليس المعنى: أنَّ نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه، وإنَّما المعنى (٣) أنَّك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدومًا، وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء


(١) ت، ر: «فكأنها تقول».
(٢) «المنازل» (ص ١٠٤).
(٣) ر: «وإنما الفناء».

<<  <  ج: ص:  >  >>