للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد عرفت أنَّ فوقه مقامًا أعلى منه وأرفعَ وأجلَّ، وهو أن يصطلم بمراده عن غيره، فيكون في حال مشاهدته واستغراقه منفِّذًا لمراده ومراسيمه، ملاحظًا لِما محبوبُه ملاحظٌ له من المرادات والأوامر.

فتأمَّل الآن عبدين بين يدي ملكٍ من ملوك الدُّنيا، وهما على موقفٍ واحدٍ بين يديه، أحدهما مشغولٌ بمشاهدته فانٍ في استغراقه في ملاحظة الملك، ليس فيه متَّسعٌ إلى ملاحظة شيءٍ من أمور الملك البتَّة. وآخر مشغولٌ بملاحظة حركات الملك وكلماته، وأيشٍ أمرُه، ولحظاتِه وخواطرِه، ليرتِّب على كلٍّ من ذلك ما هو مرادٌ للملك.

وتأمَّل قصَّة بعض الملوك الذي كان له غلامٌ يخصُّه بإقباله عليه وإكرامه والحظوة عنده من بين سائر غلمانه، ولم يكن أكثرَهم قيمةً ولا أحسنهم صورةً، فقالوا له في ذلك، فأراد السُّلطان أن يبيِّن لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره، فيومًا من الأيَّام كان راكبًا (١) ومعه الحشم، وبالبعد منه جبلٌ عليه ثلج، فنظر السُّلطان إلى ذلك الثلج وأطرق، فركض الغلام فرسه، ولم يعلم القوم لماذا ركض، فلم يلبث أن جاء ومعه شيءٌ من الثلج، فقال السُّلطان: ما أدراك أنِّي أريد الثلج؟ فقال الغلام: لأنَّك نظرت إليه، ونظر السلطان (٢) إلى شيءٍ لا يكون عن غير قصدٍ، فقال السُّلطان: إنَّما أخصُّه بإكرامي وإقبالي لأنَّ لكلِّ واحدٍ (٣) شغلًا، وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي ــ يعني في


(١) زاد في ع: «في بعض شؤونه».
(٢) ع: «نظر الملوك».
(٣) زاد في ع: «منكم».

<<  <  ج: ص:  >  >>