ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: منزلة الفقر. هذه المنزلة من أشرف منازل الطّريق وأعلاها وأرفعها، بل هي روح كلِّ منزلةٍ وسرُّها ولبُّها وغايتها.
وهذا إنّما يُعرف بمعرفة حقيقة الفقر. والّذي تريد به هذه الطّائفة أخصّ من معناه الأصليِّ، فإنّ لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاث مواضع.
أحدها: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسِبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة: ٢٧٣] أي الصّدقات لهؤلاء. وكانوا فقراء المهاجرين نحو أربعمائةٍ، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، وكانوا قد حبسوا أنفسَهم على الجهاد في سبيل الله، فكانوا وقفًا على كلِّ سريّةٍ يبعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أهل الصُّفّة. هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله (١).
وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله.
وقيل: حبسهم الفقر والعُدْم عن الجهاد في سبيل الله.
وقيل: لمّا عَادَوا أعداءَ الله وجاهدوهم في الله أُحصِروا عن الضّرب في الأرض لطلب المعاش، فلا يستطيعون ضربًا في الأرض.
(١) انظر هذا القول والأقوال الآتية في «تفسير البغوي» (١/ ٢٥٩)، والمؤلف صادر عنه. وانظر: «زاد المسير» (١/ ٣٢٧، ٣٢٨).