للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حلق إيمانه، ومرضًا متراميًا إلى هلاكه.

فإن قلت: قد أشرتَ إلى حياةٍ غير معهودةٍ بين أموات الأحياء، فهل يمكنك وصفُ طريقها، لأصِلَ إلى شيءٍ من ذوقها، فقد بان لي أنّ ما نحن فيه من الحياة حياةٌ بهيميّةٌ، ربّما زادت علينا فيه البهائم بخلوِّها من المنكِّدات والمنغِّصات وسلامةِ العاقبة؟

قلت: لعمر الله إنّ اشتياقَ القلب إلى هذه الحياة، وطلبَ علمِها ومعرفتها= دليلٌ على حياته، وأنه ليس من جملة الأموات.

فأوّل طريقها: أن تعرف الله سبحانه، وتهتدي إليه طريقًا يُوصِلك إليه، ويَخْرِق ظلماتِ الطّبع بأشعّة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهدٌ من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكلِّيّته، ويَزْهَد في التّعلُّقات الفانية، ويَدْأَب في تصحيح التّوبة، والقيامِ بالمأمورات الظّاهرة والباطنة، وتركِ المنهيّات الظّاهرة والباطنة، ثمّ يقوم حارسًا على قلبه، فلا يسامحه بخَطْرةٍ يكرهها الله، ولا بخَطْرةِ فضولٍ لا تنفعه، فيصفو (١) بذلك قلبه عن حديث النّفس ووساوسها، فيُفْدَى من أَسْرِها ويصير طليقًا، فحينئذٍ يخلو قلبه بذكر ربِّه ومحبّته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طَبْعِه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربِّه وذكْرِه، كما قال:

وأخرجُ من بين البيوتِ لعلَّني ... أحدِّثُ عنك النّفسَ في السِّرِّ خَاليَا (٢)

فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره وحديثُ نفسه على إرادة ربِّه، وطلبِه


(١) ر: «فيضعف».
(٢) البيت للمجنون في «ديوانه» (ص ٢٩٤، ٣٠١، ٣١٤) من قصيدة طويلة، وهناك التخريج وبيان اختلاف النسبة. وتقدم البيت فيما مضى (٣/ ٤٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>