للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على الفناء، لا تأخذه فيه لومة لائمٍ، وهو الجمع الذي يدندن حوله. وعينُ الجمع عنده هو تفرُّد الرّبِّ سبحانه بالأزليّة والدّوام، وبالخلق والفعل (١)، فكان ولا شيء، ويكون بعد كلِّ شيءٍ، وهو المكوِّن لكلِّ شيءٍ، فلا وجودَ في الحقيقة لغيره، ولا فعلَ لغيره، بل وجودُ غيرِه كالخيال والظِّلال، وفعلُ غيرِه في الحقيقة كحركات الأشجار والنّبات. وهذا تحقيق الفناء في شهود الرُّبوبيّة والأزليّة والأبديّة، وطيُّ بساط شهود الأكوان، فإذا ظهر هذا الحكم انمحقَ وجود العبد في وجود الحقِّ، وتدبيره في تدبير الحقِّ، فصار سبحانه هو المشهود بوجودٍ من العبد متلاشٍ مضمحلٍّ كالخيال والظِّلال.

ولا يَستعدُّ لهذا عندهم إلّا من اجتمعت إرادته على المراد وحده، حالًا لا تكلُّفًا، وطبعًا لا تطبُّعًا، فقد تنبعث الهمّة إلى أمرٍ وتتعلّق به، وصاحبها معرضٌ عن غيرِ مطلبه، متحلٍّ به، ولكنّ إرادة السِّوى كامنةٌ فيه، قد توارى حكمها واستتر، ولمّا يَزَلْ، فإنّ القلب إذا اشتغل بشيءٍ اشتغالًا تامًّا تَوارى عنه إرادتُه لغيره، والتفاتُه إلى ما سواه، مع كونه كامنًا في نفسه، مادّتُه حاضرةٌ عنده، فإذا وجد فجوةَ أدنى تخلٍّ من شاغلِه ظهر حكمُ تلك الإرادات التي كان سلطانُ شهوده يحول بينه وبينها.

فإذًا الجمعُ وعين الجمع ثلاث مراتب:

أعلاها: جمع الهمِّ على الله إرادةً ومحبّةً وإنابةً، وجمعُ القلبِ والرُّوح والنّفس والجوارح على (٢) استفراغ الوُسْعِ في التّقرُّب إليه بما يحبُّه ويرضاه، دون رسوم النّاس وعوائدهم، فهذا جمعُ خواصِّ المقرّبين وسادتهم.


(١) «وبالخلق والفعل» ليست في ت.
(٢) د: «عن».

<<  <  ج: ص:  >  >>