بل من استقرى أحوالَ النَّاس رأى أنَّ كثيرًا من أهل الإسلام ــ أو أكثرَهم ــ أعظمُ توحيدًا، وأكثرُ معرفةً، وأرسخُ إيمانًا من أكثر المتكلِّمين وأرباب النّظر والجدال؛ وتجد عندهم من أنواع الأدلّة والآيات التي يصحُّ بها إيمانُهم ما هو أظهرُ وأوضحُ وأصحُّ ممّا عند المتكلِّمين.
وهذه الآياتُ التي ندَب الله عبادَه إلى النَّظر فيها والاستدلال بها على توحيدِه، وثبوتِ صفاته وأفعاله، وصدقِ رسله= هي آياتٌ مشهودةٌ بالحسِّ، معلومةٌ بالعقل، مستقِرّةٌ في الفِطَر، لا يحتاج النّاظر فيها إلى أوضاعِ أهل الكلام والجدل واصطلاحِهم وطرقِهم البتّة. وكلُّ من له حسٌّ سليمٌ وعقلٌ يميِّز به يعرفُها، ويُقِرُّ بها، وينتقل من العلم بها إلى العلم بالمدلول.
وفي القرآن ما يزيد على عشرات الألوف من هذه الآيات البيِّنات. ومن لم يحفظ القرآنَ إذا سمعها وفهمها وعقَلها انتقل ذهنُه منها إلى المدلول أسرعَ انتقالٍ وأقرَبَه.
وبالجملة: فما كلُّ من علِمَ شيئًا أمكنه أن يستدلَّ عليه، ولا كلُّ من أمكنه الاستدلالُ عليه يُحسن ترتيبَ الدّليل وتقريرَه والجوابَ عن المعارض.
والشَّواهد التي ذكرها هي الأدلَّة، كالاستدلال بالمصنوع على الصَّانع، والمخلوق على الخالق. وهذه طريقة القرآن الذي لا توحيدَ أكمَلُ من توحيده.
قوله:(بعد أن يسلموا من الشُّبهة، والحيرة، والرِّيبة). الشُّبهة: الشُّكوك التي تُوقع في اشتباه الحقِّ بالباطل، فيتولَّدُ عنها الحيرةُ والرِّيبةُ. وهذا حقٌّ، فإنَّ هذا التَّوحيدَ لا ينفع إن لم يسلَم قلبُ صاحبه من ذلك. وهذا هو القلبُ السَّليمُ الذي لا يُفلح إلّا من أتى الله به، فيسلَم من الشُّبهِ المعارضةِ لخبره،