للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحبُّ له حالتان: حالة استغراقٍ في محبَّةِ محبوبه، كاستغراق صاحب السُّكر في سكره. وذلك عند استغراقه في شهود جماله (١) وكماله، فلا يبقى فيه متَّسعٌ لسواه، ولا فضل لغيره، فإذا رآه من لم يعرف حاله ظنَّه سكرانًا (٢). فهذا استغراقٌ في محبوبه وصفاته ونعوته.

الحالة الثانية: حالة صحوٍ، يفيق فيها على عبوديَّته والقيام بمرضاته والمسارعة إلى محابِّه. وهو في هذه الحالة: به، أي متصرِّفٌ في أوامره ومحابِّه به، ليس غائبًا عنه بأوامره، ولا غائبًا به عن أوامره، فلا يَشْغَلُه واجبُ أوامره وحقوقه عن واجب محبَّته والإنابةِ إليه والرِّضا به، ولا يَشْغَله واجبُ حبِّه عن أوامره. بل هو مقتدٍ بإمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام، فإنَّه كان في أعلى مقامات المحبَّة وهي الخلَّة، ولم يَشْغَله ذلك عن القيام بخصال الفطرة من الختان، وقصِّ الشارب، وتقليم الأظفار، فضلًا عمَّا هو فوق ذلك؛ فوفَّى المقامين حقَّهما، ولهذا أثنى الله سبحانه عليه بذلك فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: ٣٧].

قوله: (وكلُّ ما كان في عين الحقِّ لم يخلُ من حيرةٍ)، يريد بذلك تفضيلَ مقام الصحو على مقام السُّكر، ورفْعَه عليه، وأنَّ السُّكر لمَّا كان في عين الحقِّ كان مستلزمًا لنوعٍ من الحيرة.

ثمَّ استدرك فقال: (لا حيرة الشُّبهة)، فإنَّها تنافي أصل عقد الإيمان،


(١) د، ش: «حاله». ت: «حاله وجماله».
(٢) ر: «سكر». ت: «سكران»، غير منصرف على الجادَّة. والصرف لغة لبعض العرب، فإنهم يصرفونه ويقولون في مؤنثه: «سكرانة». انظر: «ارتشاف الضرب» (٢/ ٨٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>