فهاهنا ذنبان: ذنبٌ قد مضى، فالاستغفارُ: طلبُ وقاية شرِّه. وذنبٌ يخافُ وقوعَه، فالتَّوبةُ: العزم على أن لا يفعله. والرُّجوعُ إلى الله يتناول النَّوعين: رجوعٌ إليه ليقيه شرَّ ما مضى، ورجوعٌ إليه ليقيه شرَّ ما يَستقبِلُ من شرِّ نفسه وسيِّئات أعماله.
وأيضًا فإنَّ المذنبَ بمنزلة من قد ارتكب طريقًا تؤدِّيه إلى هلاكه ولا تُوصِلهُ إلى المقصود، فهو مأمورٌ أن يولِّيها ظهرَه، ويرجع إلى الطَّريق التي تُوصِلُه (١) وفيها فلاحه.
فهاهنا أمران لا بدَّ منهما: مفارقةُ شيءٍ، والرُّجوعُ إلى غيره. فخُصَّت التّوبةُ بالرُّجوع، والاستغفارُ بالمفارقة، وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين. ولهذا ــ والله أعلم ــ جاء الأمرُ بهما مرتَّبًا بقوله:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}[هود: ٣] فإنّه الرُّجوعُ إلى طريق الحقِّ بعد مفارقة طريق الباطل.
وأيضًا فالاستغفارُ من باب طلبِ إزالةِ الضَّرر، والتَّوبةُ طلبُ جلبِ المنفعة. فالمغفرةُ أن يقيَه شرَّ الذَّنب، والتَّوبةُ أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبُّه، فكلٌّ منهما يستلزم الآخرَ عند إفراده. والله أعلم.
فصل
وهذا يتبيَّن بذكر التَّوبة النَّصوح وحقيقتها. قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[التحريم: ٨]. فجعَلَ وقايةَ شرِّ السّيِّئات ــ وهو تكفيرُها ــ بزوال ما يكره العبدُ، ودخولَ الجنَّات ــ وهو حصولُ ما يحبُّ