فاعلم أنّ هاهنا مُدْرَكًا معلومًا، وقوَّةً مُدرِكةً له إذا تعلَّقتْ به صار معلومًا مُدْرَكًا، فيتولَّد من بين الأمرين حالةٌ ثالثةٌ، تُسمّى الشُّعور والعلم والإدراك.
مثال ذلك: ما يدركه بحاسّة الذوق والشمِّ، فإنّه لابدَّ من وجود المُدْرَك المَذُوق المشموم، ولابدَّ من قوَّةٍ في الآلة والمحلِّ المخصوص تقابل المدرَك وتتعلَّق به، فيتولّد من بين الأمرين كيفيّة الشمِّ والذوق. وكذلك في الملموس والمسموع والمرئيِّ، فتمام الإدراك أن يحيط علمًا بهذه الأمور الثلاثة، فيشعُر بالمُدْرَك وبالقوَّة المدرِكة وبحالة الإدراك، فإذا استغرق القلب في شهود المعلوم غاب به عن شهود القوَّة التي بها يعلم وعن حالة العلم.
ومثَّل هذا برجلٍ أدرك بلمسه ما التذّ به أعظمَ لذّةٍ حصلت له، فاستغرقته تلك اللذَّة عمَّا سواها، فأسقطتْ شعورَه بها دون وجودها، ولهذا قال الشيخ:(بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عينًا لا علمًا)، فعينًا حالٌ من البقاء لا من السُّقوط، أي بقاؤه وجودًا لا نعتًا، فإنّه في مرتبة العلم باقٍ نعتًا ووصفًا، وفي هذه المرتبة باقٍ وجودًا وعينًا لا علمًا مجرَّدًا.
وهذا وجهٌ ثانٍ في كلامه أنّه يبقى وجوده وعينه لا مجرّد العلم به، فالعلم به لم يُعدَم، ولكن انتقل العبد من وجود العلم إلى وجود المعلوم.
وكذلك قوله في الدرجة الثانية:(وبقاء المشهود بعد سقوط الشُّهود وجودًا لا نعتًا)، الشُّهود فوق العلم لأنّه علم عيانٍ، فينتقل من مجرّد الشُّهود إلى الوجود، فيبقى المشهود موجودًا له بعد أن كان مشهودًا، ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشُّهود، فإنّ الوجود حصولٌ ذاتيٌّ، والشُّهود حصولٌ علميٌّ وإن كان فوق العلم.