هذا الجار، وأمّا الدّار فلا تعلم نفسٌ حسنها وبهاءها، وسعتها ونعيمها، وبهجتها وروحها وراحتها، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشرٍ، فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذُّ الأعين، فهي الجامعة لجميع أنواع الأفراح والمسرّات، الخالية من جميع المنكِّدات والمنغِّصات، ريحانةٌ تهتزُّ، وقصرٌ مشيدٌ، وزوجةٌ حسناء، وفاكهةٌ نضيجةٌ.
فترحالنا أيُّها المصدِّقون إلى هذه الدّار بإذن ربِّنا وتوفيقه وإحسانه. وترحال المكذِّبين إلى الدّار التي أُعِدّت لمن كفر بالله ولقائه وكتبِه ورسله. فلن يجمع الله بين الموحِّدين له، الطّالبين لمرضاته، السّاعين في طاعته، الدّائبين في خدمته، المجاهدين في سبيله، وبين الملحدين، السّاعين في مساخطه، الدّائبين في معصيته، المستفرغين جهدَهم في أهوائهم وشهواتهم= في دارٍ واحدةٍ، إلّا على وجه الجواز والعبور، كما جمع بينهم في هذه الدُّنيا، ويجمع بينهم في موقف القيامة. فحاشاه من هذا الظّنِّ السّيِّئ الذي لا يليق بكماله وحكمته.
فصل
وفي هذه المرتبة تُعلَم حياة الشُّهداء عند ربِّهم، وأنّها أكمل من حياتهم في هذه الدُّنيا، وأتمُّ وأطيب، وإن كانت أجسادهم متلاشيةً، ولحومهم متمزِّقةً، وأوصالهم متفرِّقةً، فليس العمل على الطّلل، الشّأن في السّاكن، قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران: ١٦٩]، وقال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}[البقرة: ١٥٤]. وإذا كان الشُّهداء إنّما نالوا هذه الحياة بمتابعة الرُّسل وعلى أيديهم، فما الظّنُّ بحياة الرُّسل في البرزخ؟ ولقد أحسن القائل ما شاء: