للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل

وأمّا التَّوبة من التَّوبة (١)، فهي من المجملات التي يراد بها حقٌّ وباطلٌ، ويكون مرادُ المتكلِّم بها حقًّا، فيُطلِقه من غير تمييزٍ. فإنَّ التَّوبةَ من أعظم الحسنات، والتَّوبةُ من الحسنات من أعظمِ السّيِّئات وأقبحِ الجنايات، بل هو كفرٌ إن أُخِذَ على ظاهره. ولا فرق بين التَّوبة من التَّوبةِ والتَّوبةِ من الإسلام والإيمان؛ فهل يسوغ أن يقال بالتَّوبة من الإيمان!

ولكن مرادهم: أن يتوب من رؤية التَّوبة، فإنَّها إنَّما حصلت له بمنَّةِ الله ومشيئته، ولو خُلِّيَ ونفسَه لم تسمَح بها البتّة. فإذا رآها وشَهِد صدورَها منه ووقوعَها به، وغفَلَ عن منَّةِ الله عليه= تاب من هذه الرُّؤية والغفلة. ولكنَّ هذه الرُّؤيةَ والغفلةَ ليست هي التّوبة، ولا جزءًا منها، ولا شرطًا لها، بل هي جنايةٌ أخرى عرضت له بعد التَّوبة؛ فيتوبُ من هذه الجناية، كما تاب من الجناية الأولى. فما تابَ إلّا من ذنبٍ أوّلًا وآخرًا، فكيف يقال: يتوب من التّوبة! هذا كلامٌ غير معقولٍ، ولا هو صحيحٌ في نفسه.

بلى، قد يكون في التَّوبة علّةٌ ونقصٌ وآفةٌ تمنع كمالَها، وقد يشعر صاحبُها بذلك وقد لا يشعر به (٢)، فيتوب من نقصانِ التّوبة وعدمِ توفيتها حقَّها. وهذا أيضًا ليس توبةً من التَّوبة، وإنّما هو توبةٌ من عدم التّوبة؛ فإنّ القدرَ الموجودَ منها طاعةٌ لا يتاب منها، والقدرُ المفقودُ منها هو الذي يحتاج أن يتوب منه.


(١) هذا اللفظ الذي ذكره الهروي مروي عن رُوَيم بن أحمد. انظر: "اللُّمَع" للسَّرَّاج (ص ٤٣).
(٢) "به" ساقط من ل.

<<  <  ج: ص:  >  >>