للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محاسن المنظور إليه فلم يربَحْ إلَّا أذى السَّفَر، وغرَّر بنفسه في ركوب تلك البِيد (١) وما عرَفَ أنَّ راكبها على أعظم الخطَر! يا لها سفرةً لم يبلغ المسافر منها نواه (٢)، ولم يضَعْ فيها عن عاتقه عصاه، حتّى قُطِعَ عليه فيها الطَّريق، وقعد له الرَّصَدُ (٣) على كلِّ نَقْبٍ ومضيقٍ. لا يستطيع الرُّجوعَ إلى وطنه والإيابَ، ولا له سبيلٌ إلى المرور والذَّهاب. يرى هَجِيرَ الهاجرة (٤) من بعيدٍ فيظنُّه بردَ الشّراب، {مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ} [النور: ٣٩]، وتيقَّن أنّه كان مغرورًا بلامع السَّراب!

تالله ما استوت هذه الذِّلّةُ وتلك اللَّذّةُ في القيمة فيشتريَها بها العارفُ الخبير، ولا تقاربا في المنفعة، فيتخيَّرَ بينهما البصير؛ ولكن على العيون غشاوةٌ فلا تفرِّقُ بين مواطن السَّلامة ومواطن العثور، والقلوبُ تحت أغطية الغفلات راقدةٌ فوق فُرُش الغُرور، {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)} [الحج: ٤٦].

ومن أمثلة العدوان: تجاوزُ ما أُبيحَ من الميتة للضَّرورة إلى ما لم يُبَحْ منها، إمَّا بأن يشبَعَ وإنَّما أُبيح له سدُّ الرَّمَق، على أحد القولين في مذهب أحمد والشّافعيِّ وأبي حنيفة (٥).

وأباح مالكٌ له الشِّبَعَ والتّزوُّدَ إذا احتاج إليه، فإذا استغنى عنها وأكَلَها


(١) ع: "البيدا" مضبوطًا.
(٢) أي ما قصده. وقد غيِّر في ش إلى "مناه".
(٣) في ع بعده زيادة: "فيها".
(٤) ش: "الهواجر".
(٥) انظر: "المغني" (١٣/ ٣٣٠)، و"تفسير البغوي" (١/ ١٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>