للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يكن عملُه على مراد نفسه وما فيه لذّتها وراحتها من العبادات، بل على مراد ربِّه عز وجل، ولو كانت راحة نفسه ولذّتها في سواه.

فهذا المتحقِّق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقًّا، القائمُ بهما صدقًا. ملبسه ما تهيَّأَ، ومأكله ما تيسَّرَ، واشتغالُه بما أُمِر به في كلِّ وقتٍ بوقته، ومجلسه حيث انتهى ووجده خاليًا. لا تملكه إشارةٌ، ولا يتعبَّده (١) قيدٌ، ولا يستولي عليه رسمٌ. حرٌّ مجرَّدٌ، دائرٌ مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنَّى توجَّهتْ ركائبُه، ويدور معه حيث استقلَّت مضاربُه. يأنسَ به كلُّ مُحِقٍّ، ويستوحش منه كلُّ مبطلٍ. كالغيث حيث وقَع نفَع. وكالنخلة لا يسقط ورقُها، وكلُّها منفعةٌ حتّى شوكُها. وهو موضعُ الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضبِ إذا انتُهِكَتْ محارمُ الله. فهو لله وبالله ومع الله. قد صحِبَ الله بلا خَلْقٍ، وصحِبَ النّاسَ بلا نَفْسٍ. بل إذا كان مع الله عزَلَ الخلائق من البين، وتخلَّى عنهم. وإذا كان مع خَلْقه عزَلَ نفسَه من الوسط وتخلّى عنها. فواهًا (٢)! ما أغربَه بين النّاس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسَه بالله وفرَحَه به وطمأنينته به وسكونه إليه! والله المستعان، وعليه التكلان.

فصل (٣)

ثمّ للنّاس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقٌ أربعةٌ، وهم في ذلك أربعة أصنافٍ.

الصِّنف الأوّل: نفاة الحِكَم والتّعليل، الذين يردُّون الأمر إلى محض


(١) هكذا في الأصل وع، وكذا كان في ل فغيِّر إلى "يقيِّده" كما في النسخ الأخرى.
(٢) بعده زيادة في ع: "له".
(٣) بإزائه في هامش ق: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه".

<<  <  ج: ص:  >  >>