وتأمّلْ أحوالَ الرُّسل مع الله، وخطابَهم وسؤالَهم، كيف تجدها كلّها مشحونةً بالأدب قائمةً به.
قال المسيح:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}[المائدة: ١١٦]، ولم يقل:«لم أقله». وفرقٌ بين الجوابين في حقيقة الأدب. ثمّ أحال الأمر على علمه بالحال وبسِرِّه فقال:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}. ثمّ برّأ نفسَه عن علمه بغيب ربِّه وما يختصُّ به، فقال:{وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}. ثمّ أثنى على ربِّه، ووصفَه بتفرُّده بعلم الغيوب كلِّها، فقال:{إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. ثمّ نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره به ــ وهو محض التّوحيد ــ فقال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. ثمّ أخبر عن شهادته عليهم مدّةَ مُقامِه فيهم، وأنّه بعد وفاته لا اطِّلاعَ له عليهم، وأنّ الله عزّ وجلّ وحدَه المنفردُ بعد الوفاة بالاطِّلاع عليهم، فقال:{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}. ثمّ وصفه بأنّ شهادته سبحانه فوق كلِّ شهادةٍ وأعمُّ، وأنه على كلٍّ شهيدٌ، فقال:{وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. ثمّ قال:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام، أي: شأنُ السّيِّد رحمة عبيده والإحسان إليهم، وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدًا لغيرك، فإذا عذَّبتَهم ــ مع كونهم عبيدَك ــ فلولا أنّهم عبيدُ سوءٍ من أخسِّ (١) العبيد وأعتاهم على سيِّدهم وأعصاهم له= لم تُعذِّبهم، لأنّ مرتبة العبوديّة تستدعي إحسان السّيِّد إلى عبده ورحمته، فلماذا يُعذِّب أرحم الرّاحمين، وأجودُ الأجودين وأعظم المحسنين إحسانًا عبيدَه؟ لولا فرطُ عُتوِّهم وإبائهم عن طاعته، وكمالُ استحقاقهم للعذاب.