للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تقدّم قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}. أي: هم (١) عبادك، وأنت أعلم بسرِّهم وعلانيتهم، فإذا عذَّبتَهم عذّبتَهم على علمٍ منك بما تُعذِّبهم عليه، فهم عبادك وأنت أعلم بما جَنَوه واكتسبوه، فليس في هذا استعطافٌ لهم كما يظنُّه الجهّال، ولا تفويضٌ إلى محض المشيئة والملك المجرّد عن الحكمة كما تظنُّه القدريّة. وإنّما هو إقرارٌ واعترافٌ وثناءٌ عليه بحكمته وعدله، وكمالِ علمه بحالهم، واستحقاقهم للعذاب.

ثمّ قال: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ولم يقل: «الغفور الرّحيم». وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنّه في وقت غضب الرّبِّ عليهم، والأمرِ بهم إلى النّار، فليس مقام استعطافٍ ولا شفاعةٍ، بل مقام براءةٍ منهم. فلو قال: «فإنّك أنت الغفور الرّحيم» لأشعرَ باستعطافه على أعدائه الذين قد اشتدّ غضبه عليهم، فالمقام مقام موافقةٍ للرّبِّ (٢) في غضبه على من غضِبَ الرّبُّ عليهم، فعدَلَ عن ذكر الصِّفتين اللّتين يسأل بهما عطْفَه ورحمتَه ومغفرتَه (٣) إلى ذكرِ العزّة والحكمة المتضمِّنتين لكمال القدرة وكمال العلم.

والمعنى: إن غفرتَ لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجزٍ عن الانتقام منهم، ولا عن خفاءٍ عليك بمقدار جرائمهم (٤)، وهذا لأنّ العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار


(١) «هم» ليست في ل.
(٢) ل: «الرب» ..
(٣) «ومغفرته» ليست في ش، د.
(٤) ش، د: «جزائهم».

<<  <  ج: ص:  >  >>