للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل

وأصلُ ذلك كلِّه هو: الفرقُ بين محبَّة الله ورضاه، ومشيئته وإرادته الكونيَّة. وإنَّ منشأَ الضَّلالِ في هذا الباب من التَّسوية بينهما أو اعتقادِ تلازمهما، فسوَّى بينهما الجبريّةُ والقدريّةُ، وقالوا: المشيئةُ والمحبَّةُ سواءٌ أو متلازمان. ثم اختلفوا:

فقالت الجبريّة: والكون كلُّه: قضاؤه وقدرُه، طاعاتُه ومعاصيه، خيرُه وشرُّه= فهو محبوبه. ثمّ من تعبَّد منهم وسلك على هذا الاعتقاد رأى أنَّ الأفعالَ جميعَها محبوبةٌ للرّبِّ، إذ هي صادرةٌ عن مشيئته، وهي عينُ محبّته ورضاه؛ وفني في هذا الشُّهود الذي كان اعتقادًا، ثمَّ صار مشهدًا. فلزم من ذلك ما تقدَّم من أنّه لا يستقبح سيِّئةً ولا يُنكِر منكرًا، وتلك اللّوازمُ الباطلةُ المنافيةُ للشّرائع جملةً.

ولمّا ورد على هؤلاء قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٢٠٥]، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: ٧]، وقولُه: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةٌ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (١) [الإسراء: ٣٨] واعتاصَ عليهم كيف يكون مكروهًا له، وقد أراد كونَه؟ وكيف لا يحبُّه، وقد أراد وجودَه؟ أوَّلوا هذه الآياتِ ونحوَها بأنّه لا يحبُّها دينًا ولا يرضاها شرعًا، ويكرهها كذلك، بمعنى أنّه لا يشرعها، مع كونه يحبُّ وجودَها ويريدُه.

فشهدوا في مقام الفناء كونَها محبوبةَ الوجود، ورأوا أنَّ المحبَّةَ تقتضي موافقةَ المحبوب فيما يحبُّه، والكونُ كلُّه محبوبُه، فأحبُّوا ــ بزعمهم ــ جميعَ


(١) "سيِّئةً" قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير. وقرأ الباقون: "سيِّئُه".

<<  <  ج: ص:  >  >>