للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال بعض المحبِّين: مساكينُ أهلُ الدُّنيا! خرجوا من الدُّنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبّة الله والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه (١). أو نحو هذا من الكلام.

وكلُّ من له قلبٌ حيٌّ يشهد هذا ويعرفه ذوقًا.

وهذه الأشياء الخمسة قاطعةٌ عن هذا، حائلةٌ بين القلب وبينه، عائقةٌ له عن سيره، محدثةٌ له أمراضًا وعللًا إن لم يتداركها المريض خيف عليه منها.

فأمَّا ما تؤثره (٢) كثرة الخلطة، فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتّى يسودَّ، ويوجب له تشتُّتًا وتفرُّقًا، وهمًّا وغمًّا وضعفًا، وحملًا لما يعجِز عن حمله من مؤنة قرناء السُّوء، وإضاعةِ مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسيمِ فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟

هذا، وكم جلبت خلطة الناس مِن نقمة، ودفعت من نعمة، وأَنزلت من محنة، وعطَّلت من منحة، وأحلَّت من رزيَّة، وأوقعت في بليَّة؟ وهل آفة النّاس إلَّا الناس؟ وهل كان على أبي طالبٍ عند الوفاة أضرُّ من قرناء السُّوء؟ لم يزالوا به حتَّى حالوا بينه وبين كلمةٍ واحدةٍ توجب له سعادة الأبد (٣).


(١) أسند الدِّينَوَري في «المجالسة» (٢٢٢) وأبو نُعيم في «الحلية» (٢/ ٣٥٨) عن التابعي الزاهد مالك بن دينار نحوه، إلا أنه قال: «معرفة الله تعالى». وأسند أبو نعيم (٨/ ١٦٧) أيضًا عن عبد الله بن المبارك مثله.
(٢) ع: «تورثه».
(٣) كما في حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عند البخاري (١٣٦٠) ومسلم (٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>