وكلُّ واحدةٍ من الطّائفتين المنحرفتين تركت نوعًا من الحقِّ، ارتكبت (١) لأجله نوعًا من الباطل، بل أنواعًا! وهدى الله أهلَ السُّنّة لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه. {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ}[البقرة: ٢١٣] و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الحديد: ٢١].
فصل
الصِّنف الثالث: الذين زعموا أنّ فائدةَ العبادة رياضةُ النُّفوس، واستعدادُها لفيض العلوم عليها، وخروجُ قواها عن قوى النُّفوس السَّبعيّة والبهيميّة؛ فلو عطِّلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السِّباع والبهائم. فالعباداتُ تُخْرِجُها عن مألوفها وعوائدها، وتنقلُها إلى مشابهة العقول المجرَّدة، فتصير عالمةً قابلةً لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها.
وهذا تقوله طائفتان: إحداهما: من تقرَّبَ إلى النُّبوّات والشّرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وعدم انشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار.
والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفيّة الإسلام وتقرَّب إلى الفلاسفة، فإنّهم يزعمون أنَّ العباداتِ رياضاتٌ لاستعداد النُّفوس وتجرُّدها، ومفارقتها العالمَ الحسِّيَّ، ونزول الواردات والمعارف عليها.
ثمّ من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلّا لهذا المعنى، فإذا حصل لها بقي مخيَّرًا في حفظ أوراده، أو الاشتغال بالوارد عنها.