وإذا انحرفت عن خلق «الرّحمة» انحرفت: إمّا إلى قسوةٍ، وإمّا إلى ضعف قلبٍ وجُبْن نفسٍ، كمن لا يُقدِم على ذبح شاةٍ ولا إقامةِ حدٍّ ولا تأديبِ ولدٍ، ويزعم أنّ الرّحمة تحمله على ذلك. وقد ذبحَ أرحمُ الخلق بيده في موقفٍ واحدٍ ثلاثًا وستِّين بدنةً، وقطعَ الأيديَ من الرِّجال والنِّساء، وضربَ الأعناق، وأقام الحدودَ، ورجمَ بالحجارة حتّى مات المرجوم. وكان أرحمَ خلقِ الله على الإطلاق وأرأفَهم.
وكذلك «طلاقةُ الوجه والبِشْرُ المحمود»، فإنّه وسطٌ بين التّعبيس والتّقطيبِ وتصعيرِ الخدِّ وطَيِّ البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كلِّ أحدٍ، بحيث يُذهِب الهيبة ويُزِيل الوقار ويُطمِع في الجانب، كما أنّ الانحراف الأوّل يُوقِع الوحشةَ والبِغْضةَ والنُّفرةَ في قلوب الخلق. وصاحب الخلق الوسط: مَهِيبٌ محبوبٌ، عزيزٌ جانبه، حبيبٌ لقاؤه. وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رآه بديهةً هَابَه، ومن خالطَه عِشْرةً أحبَّه»(١).
فصلٌ نافعٌ جدًّا
عظيمُ النّفع للسّالك، يُوصِله عن قُربٍ، ويُسيِّره بأخلاقه التي لا يمكنه إزالتها، فإنّ أصعبَ ما على الطّبيعة الإنسانيّة تغيُّر الأخلاق التي طُبِعتْ عليها. وأصحابُ الرِّياضات الصّعبة والمجاهدات الشّاقّة إنّما عملوا عليها، ولم يَظْفَر أكثرهم بتبديلها, لكنّ النّفس اشتغلتْ بتلك الرِّياضات عن ظهور
(١) أخرجه الترمذي في «السنن» (٣٦٣٨) وفي «الشمائل» (٧) من حديث علي بن أبي طالب، وقال: حسن غريب، ليس إسناده بمتصل. وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (٣٢٤٦٥) والبيهقي في «دلائل النبوة» (١/ ٢٦٩). وفي إسناده عمر بن عبد الله مولى غفرة ضعيف، ثم إنه منقطع بين إبراهيم بن محمد وعلي.