للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفرق بين هذه الدّرجة والّتي قبلها: أنّ في التي قبلها منعَ من مواقعة أسباب الجفاء اضطرارًا، وفي هذه: إذا عرضتْ له أسبابُ النّقيصة التي يستحقُّ عليها اللّائمة، لم يَعتِبْه عليها ولم يَلُمْه. وهذا نوعٌ من الدَّلال، وصاحبه من ضَنائن الله وأحبابه. فإنّ الحبيب يُسامَح بما لا يُسامَح به سواه، لأنّ المحبّة أكبر شفعائه (١). وإذا هفا هفوةً ملَّكه عاقبتَها، بأن جعلها سببًا لرِفعته وعلوِّ درجته، فيجعل تلك الهفوة سببًا لتوبةٍ نصوحٍ، وذلٍّ خاصٍّ، وانكسارٍ بين يديه، وأعمالٍ صالحةٍ تزيد في قربه منه أضعافَ ما كان عليه قبل الهفوة. فتكون تلك الهفوة أنفعَ له من حسناتٍ كثيرةٍ. وهذا من علامات اعتناء الله بالعبد، وكونِه من أحبّائه وحزبه.

وقد استشهد الشّيخ - رحمه الله - بقصّة سليمان عليه السّلام، حين ألهَتْه الخيل عن صلاة العصر، فأخذتْه الغضبة لله والحميّة، وحملتْه على أن مَسَحَ عراقيبها وأعناقها بالسّيف، وأتلفَ مالًا شَغلَه عن الله في الله، فعوَّضه الله منه أن حمَلَه على متن الرِّيح. فملّكه الله تعالى عاقبةَ هذه الهفوة. وجعلها سببًا لنيل تلك (٢) المنزلة الرّفيعة.

واستشهد بقصّة موسى عليه السلام، حين ألقى الألواحَ ــ وفيها كلام الله ــ عن رأسه وكسَرها، وجرَّ بلحيةِ أخيه وهو نبيٌّ مثله، ولم يَعتِبْه الله على ذلك كما عتبَ على آدم عليه السّلام في أكل لقمةٍ من الشّجرة، وعلى نوحٍ حين سأل ربّه في ابنه أن يُنجِيه، وعلى داود في شأن امرأة أوريا، وعلى يونس في شأن المغاضبة.


(١) ل: «شفايعه».
(٢) «تلك» ليست في ش، د.

<<  <  ج: ص:  >  >>