فارق هذه الحال، وصار إلى مُلكٍ هنيٍّ واسعٍ نافذةٍ فيه كلمتُه، مطاعٍ أمره، قد انقادت له الجيوش واجتمعت عليه الأمَّة= فإنَّ وجوده حينئذٍ غير الوجود الذي كان فيه. وهذا تشبيهٌ على التقريب، وإلَّا فالأمر أعظم من ذلك وأعظم، فلهذا قال:(لا يُدرَك منه نعت)، أي: لا يُدرك منه نعتٌ يُطابقه ويحيط به، فإنَّ الأمور العظيمة جدًّا نعتُها لا يكشف حقيقتها على ما هي عليه، وليس في الدُّنيا ممَّا في الآخرة إلَّا الأسماء، وإنَّما يُذكَر بعض لوازمها ومتعلَّقاتها، فيدلُّ بالمذكور على غيره.
وقوله:(ولا مقدار) يريد: مقدار الشرف والمنزلة، كما تقول: فلانٌ كبير المقدار.
وقوله:(إلَّا اسمٌ معارٌ ولمحٌ إليه يُشار)، لمَّا كان الاسم لا يبلغ الحقيقة ولا يطابقها، فكأنَّه لغيرها وأعير إطلاقُه عليها عاريةً. وكذلك اللمح المشار هو الذي يُشار به إشارةً إلى الحقيقة.
وبعد، فالشَّيخ يدندن حول بحر الفناء، وكأنَّه يقول: صاحب هذا الاتِّصال قد فني في الوجود، بحيث صار نقطةً انحلَّ تعيُّنها، واضمحلَّ تكوُّنها، ورجع عودُها على بدئها، ففني من لم يكن، وبقي من لم يزل؛ فهناك طاحت الإشارات، وذهبت العبارات، وفنيت الرُّسوم {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}[طه: ١١١].