للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عقابٌ ولا انتقامٌ. وهذا تلبيسٌ عليهم، فإنّ هذه الأمور إنّما أوجبها محضُ مشيئة الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فانطوى حكم تلك الوسائط والأسباب والعلل في بساط المشيئة الأزليّة، واضمحلَّتْ في عين الحكم الأزليِّ، وصارت من جملة الكائنات التي هي منفعلةٌ لا فاعلةٌ، ومطيعةٌ لا مطاعةٌ، ومأمورةٌ لا آمرةٌ، وخَلْقٌ من خلْقِه، لا واسطةَ بينه وبين خلقه، فهي به لا بهم. ولهذا عاذَ العارفون به منه، وهربوا منه إليه، والتجأوا منه إليه، وفرُّوا منه إليه، وتوكّلوا به عليه، وخافوا بما منه لا من غيره. فشهدوا أوّليَّتَه في كلِّ شيءٍ، وتفرُّدَه في الصُّنع (١)، وأنّه ما ثَمَّ ما يُوجِب شيئًا من الأشياء إلّا مشيئتُه وحده، فمشيئته هي السّبب في الحقيقة، وما يُشاهَد ويُعلَم من الأسباب فمحلٌّ ومجرًى (٢) لنفوذ المشيئة، لا أنّه مؤثِّرٌ وفاعلٌ، فالوسائط لابدَّ أن تنتهي إلى أوّلٍ، لامتناع التسلسل، ولهذا قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فمَن أَعدَى الأوّلَ؟» (٣).

والله سبحانه قدَّر المقادير، وكتبَ الآثار والأعمال، والشّقاوةَ والسّعادة، والثّواب والعقاب، حيث لا واسطةَ هناك ولا سببَ ولا علّة، فأهل التّفرقة وقفوا مع الوسائط، وأهل الجَمْع نفَذَ بصَرُهم من الوسائط والأسباب إلى مَن أقامها وربطَ بها أحكامها.

قوله: (وأخفى الرِّضا والسُّخط اللّذين يوجبانِ الوصل والفصل)، يعني: أنّه سبحانه أخفى عن عباده ما سبقَ لهم عنده من سخطه عمَّن سخِطَ عليه،


(١) ت: «بالصنع».
(٢) ت: «مجرد».
(٣) أخرجه البخاري (٥٧١٧)، ومسلم (٢٢٢٠) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <  ج: ص:  >  >>