وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبَه وتعظُم في عينه لمشاهدته الحقَّ ومستحَقَّه، وتقصيرَه في القيامِ به وإيقاعِه على الوجه اللّائق الموافق لما يحبُّه الرَّبُّ ويرضاه من كلِّ وجهٍ.
إذا عُرِف هذا، فاستقلالُ العبدِ لمعصيته عينُ الجرأة على الله، وجهلُه بقدر مَن عصاه وبقدر حقِّه. وإنّما كان مبارزةً لأنّه إذا استصغر المعصيةَ واستقلَّها هان عليه أمرُها وخفَّت على قلبه، وذلك نوعُ مبارزةٍ.
وأمّا قوله:(ومحضُ التَّزيُّن بالحميَّة)، أي بالمحاماةِ عن النَّفس وإظهارِ براءة ساحتها، لا سيَّما إن انضاف إلى ذلك مشاهدةُ الحقيقة والاحتجاجُ بالقدَر، وقولُه: وأيُّ ذنبٍ لي، والمحرِّكُ لي غيري، والفاعل فيَّ سواي، وإنّما أنا كالميِّت بين يدي الغاسل؟ وما حيلةُ مَن ليس له حيلةٌ، وما قدرةُ من ليس له قدرةٌ؟ = ونحوُ هذا ممَّا يتضمَّن الجرأةَ على الله تعالى ومبارزتَه والمحاماةَ عن النّفس. واستصغارُ ذنوبه ومعاصيه إذا أضافها إلى الحكم فيسترسلُ إذن للقطيعة، وهي المقاطعةُ لربِّه تعالى والانقطاعُ عنه، فيصيرُ خصمًا لله مع نفسه وشيطانه. وهذه حالةُ المحتجِّين بالقدَر على الذُّنوب، فإنَّهم خُصَماءُ الله عزَّ وجلَّ (١) مع الشّياطين والنُّفوس على الله تعالى، وهذا غاية البعد والطّرد والانقطاع عن الله سبحانه.
فإن قلتَ: كيف كانت توبةُ العامَّة من استكثار الطّاعات، وتوبةُ مَن هم أخصُّ منهم وأعلى درجةً من استقلال المعصية؟ وهلّا كان الأمر بالضِّدِّ؟
قلتُ: الأوساطُ لمّا كانوا أشدَّ تطُلَّبًا لعيوب النّفس والعمل وأكثرَ تفتيشًا