ومن هذا: كفرُ مَن عرَفَ صدقَ الرَّسول وأنَّه جاء بالحقِّ من عند الله، ولم ينقَدْ له إباءً واستكبارًا. وهو الغالبُ على كفر أعداء الرُّسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون: ٤٧]، وقولُ الأمم لرسلهم:{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا}[إبراهيم: ١٠]، وقولُه:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}[الشمس: ١١]. وهو كفرُ اليهود، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}[البقرة: ٨٩]، وقال:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة: ١٤٦]. وهو كفرُ أبي طالبٍ أيضًا، فإنَّه صدَّقه ولم يشكَّ في صدقه، ولكن أخذته الحَميّةُ وتعظيمُ آبائه أن يرغَب عن ملَّتهم، ويشهدَ عليهم بالكفر.
وأمّا كفرُ الإعراض، فأن يُعرِض بسمعه وقلبه عن الرَّسول، لا يصدِّقه ولا يكذِّبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتّة، كما قال أحدُ بني عبدِ يالِيلَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: والله، لا أقول لك كلمةً. إن كنتَ صادقًا، فأنت أجلُّ في عيني من أن أرُدَّ عليك. وإن كنتَ كاذبًا، فأنتَ أحقَرُ من أن أكلِّمك (١).
وأمّا كفرُ الشّكِّ، فأن لا يجزمَ بصدقه ولا بكذبه، بل يشكَّ في أمره. وهذا لا يستمرُّ شكُّه إلّا إذا ألزم نفسَه الإعراضَ عن النّظر في آيات صدقه جملةً، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها. وأمّا مع التفاته إليها ونظره فيها، فإنَّه لا يبقى معه شكٌّ، لأنَّها مستلزمةٌ للصِّدق، ولا سيَّما بمجموعها، فإنَّ دلالتها على الصِّدق كدلالة الشَّمس على النّهار.