وهذا الكلام لا يعلم معناه إلَّا الفقيه في دين الله تعالى، فإنّ من شهد حقيقة الخلق وعجزَهم وضعفَهم وتقصيرَهم، بل تفريطَهم وإضاعتَهم لحقِّ الله وإقبالَهم على غيره، وبيعَهم حظَّهم من الله بأبخس الثَّمن من هذا العاجل الفاني= لم يجد بدًّا من مقتهم، ولم يمكنه غير ذلك البتَّة، ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره، وكان على بصيرةٍ من ذلك= كان لنفسه أشدَّ مقتًا واستهانةً؛ فهذا هو الفقيه.
وأمَّا (الاستقصاء في رؤية علل الخدمة)(١) فهو التّفتيش عمَّا يشوبها من حظوظ النفس، وتمييز حقِّ الربِّ منها من حظِّ النّفس، ولعلَّ أكثرها أو كلَّها أن تكون حظًّا لنفسك وأنت لا تشعر.
فلا إله إلَّا الله، كم في النُّفوس من عللٍ وأغراضٍ وحظوظٍ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصةً وأن تصل إليه! وإنَّ العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشرٌ البتَّة وهو غير خالصٍ لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقًا وهو خالصٌ لوجه الله، ولا يميِّز هذا من هذا إلَّا أهلُ البصائر وأطبَّاء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.
فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطَّاعٌ تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثيرَ العمل وما وصل منه إلى قلبه محبّةٌ ولا خوفٌ ولا رجاءٌ، ولا زهدٌ في الدُّنيا ورغبةٌ في الآخرة، ولا نورٌ يفرِّق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحقِّ والباطل، ولا قوَّةٌ في أمره. فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحقَّ والباطل، وميَّز بين أولياء الله
(١) الخدمة: حقُّ العبودية وأدبها وواجبها، كما سيأتي في كلام المؤلف (ص ١٧٣).