للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالمراتب ثلاثة (١): علم يقينٍ يحصل عن الخبر، ثمّ تتجلَّى حقيقة المخبر عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عينَ يقينٍ، ثمَّ يباشره ويلابسه فيصير حقَّ يقينٍ. فعِلْمُنا بالجنَّة والنار الآن علمُ يقينٍ، فإذا أزلفت الجنَّة للمتَّقين في الموقف وبرِّزت الجحيم للغاوين وشاهدوهما عيانًا كان ذلك عين يقينٍ، كما قال تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: ٦ - ٧]، فإذا دخل أهل الجنَّة الجنَّة وأهلُ النار النار فذلك حقُّ اليقين. وسنزيد ذلك إيضاحًا إن شاء الله إذا انتهينا إليه.

وأمَّا قوله: (ومن الرُّسوم إلى الأصول)، فإنَّه يريد بالرُّسوم ظواهر العلم والعمل، وبالأصول: حقائق الإيمان ومعاملاتِ القلوب، وأذواقَ الإيمان ووارداتِه، فيفرُّ من أحكام العلم والعمل إلى خشوع السرِّ للعرفان، فإنّ أرباب العزائم في السَّير لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها، ولا يعتدُّون منها إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم التعرُّف الإلهيُّ، وهو نصيبهم من الأمر.

والتعرُّف الإلهيُّ لا يقتضي مفارقة الأمر، كما يظنُّ قطَّاع الطريق وزنادقة الصُّوفيَّة (٢)، بل يستخرج منهم حقائقَ الأمرِ وأسرارَ العبوديَّة وروحَ المعاملة، فحظُّهم من الأمر حظُّ العالِم بمراد المتكلِّم من كلامه تصريحًا وإيماءً وتنبيهًا وإشارةً، وحظُّ غيرهم منه حظُّ التالي له حفظًا بلا فهمٍ ولا معرفةٍ لمراده. وهؤلاء أحوج شيءٍ إلى الأمر، لأنَّهم لم يصلوا إلى تلك التعرُّفات (٣) والحقائق إلَّا به، فالمحافظة عليه لهم علمًا ومعرفةً وعملًا


(١) ش: «ثلاث». وما في سائر النسخ صحيح لا غبار عليه.
(٢) ش: «التصوف».
(٣) م، ش: «التعريفات».

<<  <  ج: ص:  >  >>