للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ووافق ذلك راحةً من النَّفس وشهوةً ولذَّة، وسرت فيها تلك الرقائق حتَّى تعبَّد بها مَن قلَّ نصيبه من النور النبوي وقلَّ شربه من العين المحمَّدية، وانضاف ذلك إلى صدقٍ وطلبٍ وإرادةِ مضادَّةٍ لأهل شهوات الغيِّ وأهل البطالة، ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم وكثافةَ حُجُبهم وغلظةَ طباعهم وثقلَ أرواحهم، وصادف ذلك تحريكًا لسواكنهم وإيقادًا (١) للواعج الحبِّ وإزعاجًا للنُّفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سُبيت منها، والنُّفوس الطالبة المرتاضة السائرة لا بدَّ لها من محرِّكٍ يحرِّكها وحادٍ يحدوها، وليس لها من حادي القرآن عوضٌ عن حادي السّماع= فتركَّب من هذه الأمور إيثارٌ منهم للسَّماع ومحبَّة صادقة له، تزول الجبال عن أماكنها ولا تفارق قلوبهم، إذ هو مثيرُ عزماتِهم ومحرِّكُ سواكنهم ومزعجُ بواطنهم.

فدواءُ مثل صاحب هذه الحال أن ينقل بالتدريج إلى سماع القرآن بالأصوات الطيِّبة، مع الإمعان في تفهُّم معانيه وتدبُّر خطابه، قليلًا قليلًا إلى أن يخلع قلبُه (٢) محبةَ سماع الأبيات، ويلبس محبَّةَ سماع الآيات، ويصير ذوقُه وشربه وحاله ووجده فيه، فحينئذٍ يعلم هو مِن نفسه أنَّه لم يكن على شيءٍ، ويتمثَّل حينئذٍ بقول القائل (٣):

وكنت أرى أن قد تناهى بيَ الهوى ... إلى غايةٍ ما فوقها لي مطلبُ

فلمَّا تلاقينا وعاينتُ حسنها ... تيقَّنت أنِّي إنّما كنت ألعبُ


(١) ع: «وانقيادًا»، تصحيف.
(٢) ع: «مِن قلبه».
(٣) نسبه ابن داود الظاهريِّ في «الزهرة» (ص ٢٧٤) إلى بعض أهل عصره، وصدر البيت الثاني فيه: «فلمَّا تفرَّقنا تذكَّرتُ ما مضى».

<<  <  ج: ص:  >  >>