للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يريد أنَّ صاحب هذه الدرجة متى قطع الأسباب والطلب، وتعدَّى تلك الدرجتين، فتوكُّله فوق توكُّل من قبله. وهو إنّما يكون بعد معرفته بحقيقة التوكُّل، وأنَّه دون مقامه، فتكون معرفته به وبحقيقته (١) نازعةً ــ أي باعثةً وداعيةً ــ إلى تخلُّصه من علَّة التوكُّل. أي: لا يعرف علّة التّوكُّل حتّى يعرف حقيقته، فحينئذٍ يعرف التوكُّل المعرفةَ التي تدعوه إلى التخلُّص من علَّته.

ثمَّ بيَّن المعرفة التي يعلم بها (٢) علَّة التوكُّل، فقال: (أن يعلم أنَّ ملكة الحقِّ للأشياء ملكة عزَّةٍ)، أي: ملكة امتناعٍ وقوَّةٍ وقهرٍ، تمنع أن يشاركه في ملكه لشيءٍ من الأشياء مشاركٌ، فهو العزيز في ملكه، الذي لا يشاركه غيره في ذرَّةٍ منه، كما هو المتفرِّد (٣) بعزَّته التي لا يشاركه فيها مشاركٌ.

فالمتوكِّل يرى أنَّ له شيئًا قد وكَّل الحقَّ فيه، وأنّه سبحانه صار وكيلَه عليه. وهذا مخالفٌ لحقيقة الأمر، إذ ليس لأحدٍ من الأمر مع الله تعالى شيءٌ، فلهذا قال: (لا يشاركه فيه مشارك، فيكِلَ شركته إليه)، فلسان الحال يقول لمن جعل الربَّ تعالى وكيله: في ماذا وكَّلتَ ربَّك؟ أفيما هو له وحده، أو لك وحدك، أو بينكما؟ فالثاني والثالث ممتنعٌ بتفرُّده بالملك وحده، والتَّوكيل في الأوَّل ممتنع، فكيف تُوكِّله فيما ليس لك منه شيءٌ البتَّة؟!

فيقال: هاهنا أمران: توكُّل وتوكيل. فالتوكُّل: محض الاعتماد والثِّقة والسُّكون إلى من له الأمر كلُّه. وعلمُ العبد بتفرُّد الحقِّ سبحانه بملك الأشياء كلِّها، وأنَّه ليس له مشاركٌ في ذرَّةٍ من ذرَّات الكون= من أقوى أسباب


(١) ل، ش: «وتحقيقه»، وهو مقتضى رسمه في الأصل وإن كان مهملًا غيرَ منقوط.
(٢) ع: «التي بها يعرف».
(٣) كذا ضبطه في الأصل، ل. وفي سائر النسخ: «المنفرد».

<<  <  ج: ص:  >  >>