صفاتها، ومن رضاها، ومن سخطها، فهو عاملٌ على التغيُّب عن وجوده وعمَّا منه، مترامٍ إلى العدم المحض، قد تلاشى وجوده ونفسه وصفاتها في وجود مولاه الحقِّ وصفاته وأفعاله، كما يتلاشى ضوء السِّراج الضعيف في جرم الشمس، فغاب برضا ربِّه عن رضاه هو عن ربِّه في أقضيته وأقداره، وغاب بصفات ربِّه عن صفاته، وبأفعاله عن أفعاله، فتلاشى وجوده وصفاته وأفعاله في جنب وجود ربِّه وصفاته، بحيث صار كالعدم المحض.
وفي هذا المقام لا يرى لنفسه رضًا ولا سخطًا. فيوجب له هذا الفناء تركَ التحكُّم على الله بأمرٍ من الأمور، وتركَ التخيُّر عليه، فتذهب مادَّة التحكُّم وتفنى، وتنحسم مادَّة الاختيار وتتلاشى، وعند ذلك يسقط تمييز العبد ويتلاشى. هذا تقرير كلامه.
وبعد، فهاهنا أمران:
أحدهما: أنَّ هذا حالٌ يعرض، لا مقامٌ يُطلَب ويشمَّر إليه. فإنَّ هذه الحال متى عرضت له وارت عنه تمييزَه، ولا يمكن أن يدوم له ذلك، بل يقصر زمنه ويطول ثمَّ يرجع إلى تمييزه وعقله. وصاحب هذه الحال مغلوبٌ: إمَّا سكران بحاله، وإمَّا فانٍ عن وجوده.
والكمال وراء ذلك، وهو أن يكون فناؤه عن إرادته بإرادة ربِّه منه، فيكون باقيًا بوجودٍ آخر غير وجوده الطبيعيِّ، وهو وجودٌ مُطهَّرٌ كائنٌ بالله ولله ومع الله، وصاحبه في مقامِ «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش»(١)، قد فني
(١) جزء من الحديث القدسي: «من عادى لي وليًّا»، وقد سبق (١/ ٤٠٨) تخريجه وبيان أن أصله في البخاري دون هذه الزيادة، فإنها لا تثبت.