للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولو أغضب الخلق. وهذه هي درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيِّنا محمد (١) - صلى الله عليه وسلم -، فإنّه قاومَ العالمَ كلّه، وتجرَّد للدّعوة إلى الله، واحتملَ عداوةَ القريب والبعيد في الله تعالى، وآثرَ رضا الله على الخلقِ من كلِّ وجهٍ، ولم يأخذْه في إيثار رضاه لومةُ لائمٍ. بل كان همُّه وعزمُه وسعْيُه كلُّه مقصورًا على إيثار مرضاة الله، وتبليغِ رسالاته، وإعلاءِ كلماته، وجهادِ أعدائه، حتّى ظهر دينُ الله على كلِّ دينٍ، وقامت حُجَّتُه على العالمين، وتمَّتْ نعمتُه على المؤمنين. فبلَّغ الرِّسالة، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمّة، وجاهد في الله حقَّ الجهاد، وعبَدَ الله حتّى أتاه اليقينُ، فلم ينَلْ أحدٌ من درجة هذا الإيثار ما نالَه صلوات الله وسلامه عليه.

وأمّا قوله: (وإن عظُمتْ فيه المِحَن، وثَقُلَتْ فيه المُؤَن)، فإنّ المحنة تعظُم فيه أولًا ليتأخَّر من ليس من أهله، فإذا احتملَها وتقدَّم انقلبتْ تلك المِحَنُ مِنَحًا، وصارت تلك المُؤَنُ عونًا. وهذا معروفٌ بالتّجربة الخاصّة والعامّة، فإنّه ما آثرَ عبدٌ (٢) مرضاةَ الله على مرضاة الخلق، وتحمّلَ ثِقَلَ ذلك ومُؤْنَتَه، وصبرَ على محنتِه= إلّا أنشأَ الله من تلك المحنة والمُؤْنةِ نعمةً ومسرّةً ومعونةً بقدر ما تحمَّلَه من مرضاته. فانقلبتْ مخاوِفُه أمانًا، ومظانُّ عَطَبِه نجاةً، وتعبه راحةً، ومُؤْنته معونةً، وبليّته نعمةً، ومحنته مِنْحةً، وسَخَطه رضًا. فيا خيبةَ المتخلِّفين، ويا ذِلّةَ المتهيِّبين!

هذا، وقد جرت سنّة الله ــ التي لا تبديلَ لها ــ أنّ من آثرَ مرضاةَ الخلق


(١) «محمد» من ل فقط.
(٢) ل: «عبده».

<<  <  ج: ص:  >  >>