للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كالنّار في الزِّناد، فألهمَه ومكَّنه، وعرَّفه وأرشدَه، وأرسلَ إليه رسلَه وأنزل كتبَه، لاستخراج تلك القوّة التي أهَّلَه بها لكماله إلى الفعل. قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: ٧ - ١٠]. فعبّر عن خلق النّفس بالتّسوية الدالَّة على الاعتدال والتّمام، ثمّ أخبر عن قبولها للفجور والتّقوى، وأنّ ذلك بإلهامه امتحانًا واختبارًا. ثمّ خصّ بالفلاح من زكّاها، فنمَّاها وعَلَّاها، ورفعها بآدابه التي أدّب بها رسلَه وأنبياءه وأولياءه، وهي التّقوى. ثمّ حكم بالشّقاء على من دَسَّاها، فأخفاها وحقَّرها، وصغَّرها وقمَعَها بالفجور.

فصل

وجرت عادةُ القوم أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - حين أراه ما أراه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: ١٧]. وأبو القاسم القشيريُّ - رحمه الله - صدَّر بابَ الأدب بهذه الآية (١)، وكذلك غيره.

وكأنّهم نظروا إلى قول من قال من أهل التّفسير (٢): إنّ هذا وصفٌ لأدبه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبًا، ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب. والإخلالُ به: أن يلتفت النّاظر عن يمينه وعن شماله، أو يتطلّع إلى ما أمامَ المنظور، فالالتفات زَيْغٌ، والتّطلُّع إلى ما (٣) أمامَ المنظور طغيانٌ ومجاوزةٌ. فكمال الأدب إقبالُ النّاظر على المنظور، لا يَصرِف بصرَه عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً، ولا يتجاوزه.


(١) «الرسالة القشيرية» (ص ٥٩٣).
(٢) انظر: «تفسير الطبري» (٢٢/ ٤٣، ٤٤)، و «تفسير القرطبي» (١٧/ ٩٧، ٩٨).
(٣) «ما» ساقطة من ش، د.

<<  <  ج: ص:  >  >>