للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا معنى ما حصَّلتُه عن شيخ الإسلام ابن تيميّة قدّس الله روحه.

وفي هذه الآية أسرارٌ عجيبةٌ، وهي من غوامض الآداب (١) اللّائقة بأكمل البشر صلوات الله وسلامه عليه: تواطأ هناك بصره وبصيرته، وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصرُه، فالبصيرة مُواطئةٌ له، وما شاهدتْه بصيرتُه فهو أيضًا حقٌّ مشهودٌ بالبصر، فتواطأ في حقِّه مشهدُ البصر والبصيرة.

ولهذا قال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (١١) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: ١١ - ١٢]. أي: ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره. ولهذا قرأها أبو جعفرٍ: «ما كذَّب الفؤاد ما رأى» بتشديد الذّال (٢): لم يُكذِّب القلبُ البصرَ، بل صدَّقه وواطأَه، لصحّة الفؤاد والبصر، أو استقامةِ البصيرة والبصر، وكونِ المرئيِّ المشاهَدِ بالبصر والبصيرة حقًّا. وقرأ الجمهور: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتّخفيف، وهو متعدٍّ، و «ما رأى» مفعوله، أي: ما كذب قلبُه ما رأتْه عيناه، بل واطأه ووافقَه، فلمواطأة قلبه لقالبه وظاهرِه لباطنه وبصرهِ لبصيرته: لم يكذب الفؤاد البصر، ولم يتجاوزِ البصرُ حدَّه فيطغى، ولم يَمِلْ عن المرئيِّ (٣) فيزيغ، بل اعتدلَ البصرُ نحو المرئيِّ، ما جاوزَه ولا مالَ عنه، كما اعتدل القلب في الإقبال على الله والإعراضِ عمّا سواه، فإنّه أقبلَ على الله بكلِّيّته وأعرضَ عما سواه بكلّيتِه. وللقلب زَيغٌ وطغيانٌ، كما للبصر زيغٌ وطغيان، وكلاهما منتفٍ عن قلبه وبصره. فلم يَزِغْ قلبه التفاتًا عن الله إلى غيره، ولم يَطْغَ بمجاوزته مقامَه الذي أقيم فيه.


(١) ل: «الأدب».
(٢) انظر: «تفسير الطبري» (٢٢/ ٢٦)، و «النشر» (٢/ ٢٨٣).
(٣) ل: «الراي».

<<  <  ج: ص:  >  >>