للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المستحسنات. وكذلك في المكروهات سماعًا ورؤيةً.

ولهذا كان الصّحيح من القولين (١): أنّ حاسّة السّمع أفضلُ من حاسّة البصر، لشدّة تعلُّقِها بالقلب، وعِظَمِ حاجته إليها، وتوقُّفِ كماله عليها، ووصولِ العلوم إليه بها، وتوقُّفِ الهدى على سلامتها.

ورجحّت طائفةٌ حاسّةَ البصر لكمال مُدرَكِها، وامتناع الكذب فيه، وزوالِ الرّيب والشّكِّ به. ولأنّه عين اليقين، وغاية مُدرَك حاسّةِ السّمع علم اليقين، وعين اليقين أفضل وأكمل من علم اليقين. ولأنّ متعلقها رؤية وجه الرّبِّ تبارك وتعالى في دار النّعيم، ولا شيء أعلى وأجلُّ من هذا المتعلّق.

وحكم شيخ الإسلام ابن تيميّة ــ قدَّس الله روحه ــ بين الطّائفتين حكمًا حسنًا. فقال (٢): المُدْرَك بحاسّة السّمع أعمُّ وأشمل. والمُدرَك بحاسّة البصر أتمُّ وأكمل. فللسّمع العمومُ والشُّمول والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسِّيِّ والمعنويِّ، وللبصر: التّمام والكمال.

وإذا عُرِف هذا، فهذه الحواسُّ الخمس لها أشباحٌ وأرواحٌ، وأرواحها حظُّ القلب ونصيبُه منها. فمن ليس لقلبه منها نصيبٌ إلّا كنصيب الحيوانات البهيميّة منها فهو بمنزلتها، وبينه وبينها أوّلُ درجة الإنسانيّة. ولهذا شبّه الله أولئك بالأنعام، بل جعلهم أضلَّ، فقال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ


(١) انظر كلام المؤلف في المفاضلة بين السمع والبصر في «الصواعق المرسلة» (ص ٨٧٣)، و «مفتاح دار السعادة» (١/ ٢٨٨ - ٢٩٢)، والمصادر المذكورة في هامش «المفتاح».
(٢) كما في «بدائع الفوائد» (ص ١٢٦، ١١٠٧). وانظر: «مجموع الفتاوى» (١٦/ ٦٨)، و «درء التعارض» (٧/ ٣٢٥)، و «الرد على المنطقيين» (ص ٩٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>