ورياضه التي سَرَحَ فيها، وحياته التي بها قِوامُه. وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات، ولكن أخطؤوا الطّريقَ، وأخذوا عن الدَّرْب شمالًا ووراءً.
القسم الثّالث: من له منزلةٌ بين المنزلتين، وقلبه باقٍ على فطرته الأولى، ولكن ما تصرّف في نفسه تصرُّفًا أحالها إليه، وأزالَ به رسومها، وجَلَّى عنه ظلمتها، ولا قَوِيت النّفسُ على القلب بإحالته إليها، وتصرّفت فيه تصرُّفًا أزالت عنه نورَه وصحّته وفطرته.
فبين القلب والنّفس مُنازَلاتٌ ووقائع، والحرب بينهما دُولٌ وسِجالٌ، تُدال النّفس عليه تارةً، ويُدال عليها تارةً.
فهذا حظُّه من السّماع حظٌّ بين الحظَّين، ونصيبه منه بين النّصيبين، فإن صادفه وقت دولة القلب كان حظُّه منه قويًّا، وإن صادفه وقت دولة النّفس كان ضعيفًا. ومن هاهنا يقع التّفاوت بين الناس في الفقه عن الله، والفهمِ عنه، والابتهاجِ والنّعيم بسماع كلامه.
وصاحب هذه الحال ــ في حال سماعه ــ يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النّفس، فيفوتُه من روح المسموع ونعيمه ولذّته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة، ولا سبيلَ له إلى حصول ذلك بتمامه حتّى تضَعَ الحرب أوزارها. وربّما صادفه في حال السّماع واردُ حقٍّ، أو الظَّفرُ بمعنًى بديعٍ لا يقدر فكره على صيده كلَّ وقتٍ، فغابَ به واستغرق فيه عمّا يأتي بعده، فيَعْجِز عن صيد تلك المعاني، ويُدْهِشه ازدحامُها، فيبقى قلبه باهتًا. كما يُحكى أنّ بعض العرب أرسل صائدًا له على صيدٍ، فخرج الصّيدُ عليه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن يساره، فوقفَ باهتًا ينظر يمينًا وشمالًا، ولم يصطد شيئًا. فقال: