للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو يريد به: أنّه حَريٌّ بالافتخار بما تميَّز به، وإن لم يفتخر به إبقاءً على عبوديّته وافتقاره. فكِلا المعنيين صحيحٌ. والله أعلم.

وسرُّ ذلك: أنّ العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الألطاف، وشهده من عين المِنَّة ومحض الجود، وشهدَ مع ذلك فقْرَه إليه في كلِّ لحظةٍ، وعدمَ استغنائه عنه طرفةَ عينٍ= كان ذلك من أعظم أسبابِ الشُّكر، وأسبابِ المزيد، وتَوالي النِّعم عليه. وكلّما توالت عليه النِّعم أنشأتْ في قلبه سحائبَ السُّرور. وإذا انبسطتْ هذه السّحائب في سماء قلبه، وامتلأ أُفقه بها، أمطرتْ عليه وابلَ الطَّرب بما هو فيه من لذيذ السُّرور، فإن لم يُصِبْه وابلٌ فطلٌّ. وحينئذٍ يجري على لسانه وظاهره نهرُ الافتخار من غير عُجْبٍ ولا فخرٍ، بل فَرَحٍ بفضل الله ورحمته، كما قال تعالى: {(٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ} [يونس: ٥٨]. فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر.

وتأمَّل قول النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ ولا فَخْرَ» (١)، كيف أخبر بفضل الله ومنَّتِه عليه، وأخبر أنّ ذلك لم يصدُرْ منه افتخارًا به على من دونه، ولكن إظهارًا لنعمة الله عليه، وإعلامًا للأمّة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله وعلوِّ منزلته لديه (٢)، لتعرف الأمّة نعمةَ الله عليه وعليهم.

ويُشبِه هذا قول يوسف الصِّدِّيق للعزيز: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي


(١) أخرجه مسلم (٢٢٧٨) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وليس فيه «ولا فخر». وهو مع هذه الزيادة عند الترمذي (٣٦١٥) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
(٢) «لديه» ليست في ش، د.

<<  <  ج: ص:  >  >>