للوجود نفسه، لا بوارق نوره، فهي أعلى؛ لأنّها مشاهدة عيانٍ، والعيان والمعاينة أن تقع العينُ في العين.
وقد عرفتَ أنّ هذا مستحيلٌ في الدُّنيا، ومن جوّزه فقد أخطأ أقبحَ الخطأ، وتعدّى مقام الرُّسل. وإنّما غاية ما يصل إليه العارف: مزيد إيمانٍ ويقينٍ، بحيث يعبد الله كأنّه يراه؛ لقوّة يقينه (١) وإيمانه بوجوده وأسمائه وصفاته، وأنّ الأنوار واللوامع والبوارق إنّما هي أنوار الإيمان والطّاعات من الذِّكر وقراءة القرآن ونحوها، وأنوار استغراقهم في مطالعة الأسماء والصِّفات وإثباتها والإيمان بها، حيث يبقى كالمعاين لها، فيُشرِق على قلبه نور المعرفة، فيظنُّه نورَ الذّات والصِّفات.
وتقدّم بيان السبب المُوقِع لهم في ذلك، وأنّهم لا يمكنهم رجوعهم في ذلك إلى المحجوبين الذين غلُظَ في هذا الباب حجابهم، وكَثُفَت عن إدراكه أرواحهم، وقَصُرت عنه علومهم ومعارفهم، ولم يكادوا يَظْفَرون بذائقٍ صحيح الذّوق يُفصِّل لهم أحكام أذواقهم ومشاهداتهم، ويُنزِلها منازلَها، ويُبيِّن أسبابها وعللها، فوجود هذا أعزُّ شيءٍ. والقوم لهم طلبٌ شديدٌ وهِمَمٌ عاليةٌ، ومطلبُهم وهممُهم فوق مطالب النّاس وهممهم، فتشهد أرواحهم مقاماتِ المنكر عليهم وسفولها، واستغراقه في حظوظه وأحكام نفسه وطبيعته، فلا تسمحُ نفوسهم بقبولِ قوله والرُّجوعِ إليه، فلو وجدوا عارفًا ذا قرآنٍ وإيمانٍ ينادي القرآنُ والإيمانُ على معرفته، وتدلُّ معرفته على مقتضى الإيمان والقرآن، محكِّمًا للوحي على الذّوق، مستخرجًا أحكامَ الذّوق من الوحي، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا مدَّعٍ ولا محجوب بالوسائل عن الغايات،