للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كلُّ الخلق على ذلك، ثمّ نُسِب إلى علم الرّبِّ تعالى لكان كنَقْرِة عصفورٍ من البحر.

وهكذا سائر صفاته، كسمعه وبصره وسائر نعوت كماله، فإنّه يسمع ضجيجَ الأصوات باختلاف اللُّغات على تفنُّن الحاجات، فلا يَشْغَلُه سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِّطه المسائل، ولا يَتبرَّمُ بإلحاح المُلِحِّين، سواءٌ عنده من أسرَّ القولَ ومن جهر به، فالسِّرُّ عنده علانيةٌ، والغيب عنده شهادةٌ، يرى دبيبَ النّملة السّوداء على الصّخرة الصّمّاء في اللّيلة الظّلماء، ويرى عُروقَ نِيَاطِها (١) ومجاريَ القُوتِ في أعضائها، يضع السّماوات على إصبعٍ من أصابع يده، والأرض على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والشّجر على إصبعٍ، والماء على إصبعٍ، ويقبض سماواتِه بإحدى يديه، والأرضين باليد الأخرى، والسّماوات السّبع في كفِّه كخَرْدلةٍ في كفِّ العبد. ولو أنّ الخلق كلَّهم من أوّلهم إلى آخرهم قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطوا بالله عزّ وجلّ، لو كَشَفَ الحجابَ عن وجهه لأحرقَتْ سُبُحاتُه ما انتهى إليه بصره من خلقه.

فإذا قام بقلب العبد هذا الشّاهد اضمحلَّتْ فيه الشّواهد المتقدِّمة من غير أن تُعْدَم، بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشّاهد، وتندرج فيه الشّواهد كلُّها، ومن هذا شاهدُه، فله (٢) سلوكٌ وسيرٌ خاصٌّ، ليس لغيره ممّن هو عن هذا في غفلةٍ أو معرفةٍ مجملةٍ.

فصاحبُ هذا الشّاهد سائرٌ إلى الله في يقظته ومنامه، وحركته وسكونه،


(١) نياط جمع نَوْط: عِرق غليظ ممتدّ من الرئتين عُلِّق به القلب.
(٢) ش، د: «شاهد قلبه».

<<  <  ج: ص:  >  >>