للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والرّجل هو الذي يخاف موتَ قلبه لا موتَ بدنه، إذ أكثر هذا الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم، ولا يعرفون من الحياة إلّا الحياة الطّبيعيّة، وذلك من موت القلب والرُّوح، فإنّ هذه الحياة الطّبيعيّة شبيهةٌ بالظِّلِّ الزّائل، والنّبات السّريع الجفوف (١)، والمنام الذي يتخيَّل رائيه أنَّه حقيقةٌ، فإذا استيقظ عَرف أنّه كان خيالًا. كما قال عمر بن الخطّاب: لو أنّ الحياة الدُّنيا من أوّلها إلى آخرها أُوتِيَها رجلٌ واحدٌ، ثمّ جاءه الموت= لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يَسُرُّه ثمّ استيقظ، فإذا ليس في يده شيءٌ (٢).

وقد قيل: إنّ الموت موتانِ: موتٌ إراديٌّ، وموتٌ طبيعيٌّ (٣)، فمن أمات نفسَه موتًا إراديًّا كان موته الطّبيعيُّ حياةً له. ومعنى هذا أنّ الموت الإراديّ هو قمْعُ الشّهوات المُردِية، وإخمادُ نيرانها المُحرِقة، وتسكينُ هوائجها المُتلِفة، فحينئذٍ يتفرّغ القلب والرُّوح للتّفكُّر فيما فيه كمالُ العبد ومعرفتُه والاشتغالُ به، ويرى حينئذٍ أنّ إيثار الظِّلِّ الزّائل عن قريبٍ على العيش اللّذيذ الدّائم أخسرُ الخسران. فأمّا إذا كانت الشّهوات واقدةً (٤)، واللّذّات مُؤثَرةً،


(١) «والنبات السريع الجفوف» ليست في ت.
(٢) تقدم في الكتاب (٣/ ٤٩٣).
(٣) انظر: «تهذيب الأخلاق» لمسكويه (ص ٢١٩).
(٤) أي مشتعلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>