للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى ربِّه، وربُّه قريبٌ منه، قد صار له حبيبُه (١) ــ لفرطِ استيلائه على قلبه، ولَهَجِه بذكره، وعكوف همّته على مرضاته ــ بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله، وهذه آلات إدراكِه وعمله وسعيه، فإن سمع سمع بحبيبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطشَ بطشَ به، وإن مشى مشى به.

وإن صعُبَ عليك فهمُ هذا المعنى، وكون المحبِّ الكامل المحبّة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاتُه غائبةٌ عنه= فاضرِبْ عنه صفحًا، ودَعْ هذا الشّأن لأهله.

خَلِّ (٢) الهوى لأناسٍ يُعرَفون به ... قد كابدوا الحبَّ حتّى لانَ أصعبُه (٣)

فإنّ السّالك إلى ربِّه لا تزال همّته عاكفةً على أمرين: استفراغ القلب في صدق الحبِّ، وبذل الجهد في امتثال الأمر، فلا يزال كذلك حتّى يبدو على سرِّه شواهدُ معرفته، وآثارُ صفاته وأسمائه، ولكن يتوارى ذلك عنه أحيانًا ويبدو أحيانًا، يبدو من عين الجود، ويتوارى بحكم الفترة. والفَتَرات أمرٌ لازمٌ للعبد، فلكلِّ عاملٍ شرّةٌ، ولكلِّ شِرّةٍ فترةٌ، فأعلاها فترة الوحي؛ وهي للأنبياء، وفترة الحال الخاصِّ عن العارفين (٤)، وفترة الهمّة للمريدين، وفترة العمل للعابدين. وفي هذه الفَتَرات أنواعٌ من الحكمة والرّحمة، والتّعرُّفات الإلهيّة، وتعريف قدر النِّعمة، وتجديد الشّوق إليها، وعَضّ النواجذِ عليها، وغير ذلك.


(١) ت: «حبيبًا».
(٢) في هامش ش، د: «دَعِ». وهو كذلك في مصادر التخريج.
(٣) البيت من أبيات لأبي القاسم علي بن أفلح العبسي (ت ٥٣٣) في «المنتظم» (١٠/ ٨٢)، و «تاريخ الإسلام» (١١/ ٥٩٨).
(٤) ت: «عن المعارف». ر: «للعارفين».

<<  <  ج: ص:  >  >>