حينئذٍ أنّه (١) لم ينشأ في هذه الدّار للاستيطان والخلود، ولكن للجواز إلى مكانٍ آخر هو المنزل والمتبوَّأُ، وأنّ الإنسان دُعِي إلى ذلك بكلِّ شريعةٍ، وعلى لسان كلِّ نبيٍّ، وبكلِّ إشارةٍ ودليلٍ، ونُصِب له على ذلك كلُّ عَلَمٍ، وضُرِب له لأجله كلُّ مثلٍ، ونُبِّه عليه بنشأته الأولى ومبدئه وسائر أحواله، وأحوال طعامه وشرابه، وأرضه وسمائه، بحيث أُزِيلت عنه الشُّبهة، وأوضِحت له المحجّة، وأُقِيمت عليه الحجّة، وأُعذِر إليه غاية الإعذار، وأُمِهل أتمّ الإمهال، فاستبان لذي العقل الصّحيح والفطرة السّليمة أنّ الظَّعْن عن هذا المكان ضروريٌّ، والانتقال عنه حقٌّ لا مريةَ فيه، وأنّ له محلًّا آخر له أُنشِئ ولأجله خُلِق وله هُيِّئ، فمصيره إليه، وقدومه بلا ريبٍ عليه، وأنّ داره هذه منزلُ عبورٍ لا منزلُ قرارٍ.
وبالجملة: من نظر في الموجودات، ولم يقنع بمجرَّد النظر إليها= وجدها دالّةً على أنّ وراء هذه الحياة حياةً أخرى أكمل منها، وهذه الحياة بالنِّسبة إليها كالمنام بالنِّسبة إلى اليقظة، وكالظِّلِّ بالنِّسبة إلى الشّخص، وسمِعَها كلَّها تُنادِي بما نادى به ربُّها وخالقها وفاطرها:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ}[فاطر: ٥]، وتُنادي بلسان الحال بما نادى به ربُّها بصريح المقال:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف: ٤٥]. وقال تعالى: {(٢٣) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ