للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اليقين، وسلوا من جاء به فهو بذلك أعرف العارفين، وسلوا العلم والإيمان فهما الشّاهدان المقبولان، وسلوا العقول والفطر فعندها حقيقة الخبر. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: ٢١]. تعالى الله أحكم الحاكمين عن هذا الظّنِّ والحسبان، الذي لا يليق إلّا بأجهل الجاهلين.

ثمّ قال: النّاظر في هذا الباب رجلان، رجلٌ ينظر إلى الأشياء، ورجلٌ ينظر في الأشياء، فالأوّل: يَحَار فيها، فإنّ صورها وأشكالها وتخاطيطها تستفرغ ذهنَه وحسَّه، وتُبدِّد فكره وقلبه، فنظَرُه إليها بعين حسِّه لا يُفيده منها ثمرة الاعتبار، ولا زبدة الاختبار؛ لأنّه لمّا فقدَ الاعتبار أوّلًا فاتَه الاختيار ثانيًا.

وأمّا النّاظر في الأشياء: فإنّ نظره يبعثه على العبور من صورها إلى حقائقها والمراد بها، وما اقتضى وجودها من الحكمة البالغة والعلم التّامِّ، فيفيده هذا النّظر تمييزَ مراتبها، ومعرفةَ نافعها من ضارِّها، وصحيحها من سقيمها، وباقيها من فانيها، وقِشْرَها من لبِّها، ويميِّز (١) بين الوسيلة والغاية، وبين وسيلة الشّيء ووسيلة ضدِّه، فيعرف (٢) حينئذٍ أنّ الدُّنيا قشر والآخرة لُبٌّ، وأنّ الدُّنيا محلُّ الزّرع، والآخرة وقتُ الحصاد، وأنّ الدُّنيا مَعْبَرٌ وممرٌّ، والآخرة مستقرٌّ.

وإذا عرف أنّ الدُّنيا طريقٌ وممرٌّ كان حرِيًّا بتهيئة الزّاد لقراره، ويعلم


(١) ت: «وميّز».
(٢) ت، ر: «فعرف».

<<  <  ج: ص:  >  >>