وقد ذكرنا في كتاب «الصَّواعق»(١) أنَّ تأويل آيات الصِّفات وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصلُ فساد الدُّنيا والدِّين. وزوالُ الممالك وتسليطُ أعداء الإسلام عليه إنَّما كان بسبب التأويل، ويعرف هذا من له اطِّلاعٌ وخبرةٌ بما جرى في العالم، ولهذا يحرِّم عقلاء الفلاسفة التأويلَ مع اعتقادهم لصحَّته، لأنَّه سببٌ لفساد العالَم وتعطيلِ الشرائع.
ومن تأمَّل كيفيَّة ورود آيات الصِّفات في القرآن والسُّنَّة عَلِم قطعًا بطلانَ تأويلها بما يخرجها عن حقائقها، فإنَّها وردت على وجهٍ لا يحتمل معه التأويل بوجهٍ. فانظر إلى قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}[الأنعام: ١٥٨]، هل يحتمل هذا التقسيمُ والتنويعُ تأويلَ إتيان الربِّ ــ جلَّ جلاله ــ بإتيان ملائكته أو آياته؟ وهل يبقى مع هذا السِّياق شبهةٌ أصلًا أنَّه إتيانه بنفسه؟
وكذلك قوله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى أن قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: ١٦٣ - ١٦٤]، ففرَّق بين الإيحاء العامِّ والتكليم الخاصِّ، وجعلهما نوعين، ثمَّ أكَّد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهُّم ما يقوله المحرِّفون. وكذلك قوله:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}[الشورى: ٥١]، فنوَّع تكليمه إلى تكليمٍ بواسطةٍ، وتكليمٍ بغير واسطةٍ. وكذلك قوله لموسى عليه السلام:{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي}[الأعراف: ١٤٤]، ففرَّق بين الرِّسالة والكلام، والرِّسالةُ إنَّما هي بكلامه.