للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمنهم من يَضعُف لقوَّة الوارد، فلا يمكنه أن يتَّسع لغير ما باشر سرُّه وقلبُه من آثار الحبِّ الخاصِّ. ومنهم (١) من يقوى فيتَّسع (٢) نظره، فيجد آثار الجلال والجمال المقدَّس في قلبه وروحه، ويجد العبوديَّةَ والمحبَّة والدُّعاء والافتقارَ والتوكُّل والخوف والرجاء وسائرَ الأعمالِ القلبيَّةِ قائمةً بقلبه، لا يَشْغَله عن مشهد الرُّوح، ولا يستغرقه مشهدُ الرُّوح عنه. ويجد ملاحظتَه للأوامر والنواهي حاضرًا في جذر قلبه حيث نزلت الأمانة، فلا يَشْغَله مشهدُ الرُّوح المستغرق، ولا مشهد القلب عن ملاحظة مراضي الربِّ تعالى ومحابِّه وحقِّه على عبده. ويجد ترك التدبير والاختيار وصحَّة التفويض موجودًا في محلِّ نفسه، فيعامل الله سبحانه بذلك، بحيث لا تشغله مشاهدةُ الأولى عنه، ويقوم بملاحظة عقله لأسرار حكمة الله في خلقه وأمره.

ولا يحجبه ذلك كلُّه عن ملاحظة عبوديَّته، فيبقى مغمورَ الرُّوح بملاحظة الفردانيَّة وجلالِها وجمالِها وكمالِها، قد استغرقَتْه محبَّتُه والشوق إليه، معمورَ القلب بعبادات القلوب، معمورَ العقل بملاحظة الحكمة ومعاني الخطاب، طاهرَ القلب عن سَفْساف الأخلاق مع الله تعالى ومع الخلق، قد صار عبدًا محضًا لربِّه بروحه وقلبه وعقله ونفسه وبدنه وجوارحه، قد قام كلٌّ بما عليه من العبوديَّة، بحيث لا تحجبه عبوديَّةُ بعضه عن عبوديَّة البعض الآخر (٣)، قد فني عن نفسه وبقي بربِّه. كما قال أبو بكرٍ الكتَّاني: جرت مسألةٌ في المحبَّة بمكَّة أيَّام الموسم، فتكلَّم الشيوخ فيها، وكان الجنيدُ أصغرَهم


(١) ش، د: «وفيهم».
(٢) ت، ر: «ويتسع».
(٣) ت: «عن عبودية بعضٍ».

<<  <  ج: ص:  >  >>