للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

محالٌ في حقِّ العارف، فإنَّ طلبه لا يفارقه، بل إذا وجد اشتدَّ طلبه، فلا يزال طالبًا، فكلَّما كان أوجد كان أطلب.

نعم، الذي يفنى: طلبُ حظِّه في طلب محبوبه وطلبِ مراضيه، وليس بعد هذا غاية، ولكنَّ الذي يشير إليه القوم: أنَّ العبد يصل في منزلة المحبَّة والمعرفة والاستغراق في المشاهدة إلى حالةٍ يستولي عليه أنوارُ القرب وآثارُ الصِّفات بحيث يذهل لبُّه عن شعوره وطلبه (١) وإرادته ومحبَّته.

وإيضاح ذلك: أنَّ العبد إذا أقبل على ربِّه، وتفقَّد أحوالَه، وتمكَّن مِن شهود قيام ربِّه عليه، فإنَّه يكون في أوَّل أمره مكابدًا مصابرًا، فإذا صبر وصابر ورابط ــ صبر في نفسه، وصابر عدوَّه، ورابط على ثغر قلبه أن يدخل فيه خاطرٌ لا يحبُّه وليُّه الحقُّ ــ ظهر حينئذٍ في قلبه نورٌ من إقباله على ربِّه، فإذا قوي ذلك النُّور غيَّبه عن وجوده الذهنيِّ، وسرى به في مطاوي الغيب، وحينئذٍ يصفو له إقبالُه على ربِّه، فإذا صفا له ذلك غاب عن وجوده العينيِّ والذهنيِّ، فغاب بنور إقباله على ربِّه لوصول خالص الذِّكر وصافيه إلى قلبه، حيث خلا من كلِّ شاغلٍ من الوجود العينيِّ والذهنيِّ، وصار واحدًا لواحدٍ، فيستولي نور المراقبة على أجزاء باطنه، فيمتلئ قلبه من نور التوجُّه، بحيث يَغْمُر قلبَه ويستره عمَّا سواه، ثمَّ يسري ذلك النُّور من باطنه ويعمُّ أجزاء ظاهره، فيتشابه الظاهر والباطن فيه. وحينئذٍ فيفنى العبدُ عمَّا سواه، ويبقى بالمشهد الرُّوحيِّ الذاتيِّ الموجِب (٢) للمحبَّة الخاصَّة الملهبة للروح.


(١) ر: «بطلبه».
(٢) ش، د: «الموجبة».

<<  <  ج: ص:  >  >>