للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصفاته، وبها عُرِفت ربوبيّته وإلهيّته، وملكه وصفاته وأسماؤه.

هذا، ولم يخلقها سبحانه حاجةً منه إليها، ولا توقُّفًا لكماله المقدّس عليها، فلم يتكثّر بها من قلّةٍ، ولم يتعزّز بها من ذلّةٍ، بل اقتضى كماله أن يفعل ما يشاء بما يشاء، ويأمر ويتصرّف ويدبِّر كما يشاء، وأن يُحمَد ويُعرف، ويُذكر ويُعبد، ويَعرِف الخلقُ صفاتِ كماله ونعوتَ جلاله، ولذلك خلق خلقًا يعصونه ويخالفون أمره، ليعرف ملائكتُه وأنبياؤه ورسله وأولياؤه كمالَ مغفرته وعفوه، وحلمه وإمهاله، ثمّ أقبل بقلوب من شاء (١) منهم إليه، فظهر (٢) كرمه في قبول توبته، وبرُّه ولطفُه في العود عليه بعد الإعراض عنه، كما قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تُذنِبوا لذهبَ الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون ثمّ يستغفرون فيغفر لهم» (٣). فلمن كانت تكون مغفرته لو لم يخلق الأسباب التي يغفر عنها ويغفر بها؟ والعبد الذي له يغفر؟ فخلْقُ العبد المغفور له، وتقديرُ الذّنب الذي يُغفَر، والتّوبة التي يُغفَر بها= هو نفس مقتضى العزّة والحكمة، وموجب الأسماء الحسنى والصِّفات العلا، ليس من التّلبيس في شيءٍ، فتعليق الكوائن بالأسباب كتعليق الثّواب والعقاب بالأسباب، ولهذا سوّى صاحب «المنازل» بين الأمرين، وهو محض الحكمة، وموجب الكمال الإلهيِّ، ومقتضى الحمد التّامِّ، ومظهر صفة العزّة والقدرة والملك. والشّرائع كلُّها ــ من أوّلها إلى آخرها ــ مبنيّةٌ على تعليق الأحكام بالعلل، والقضايا بالحجج، والثّواب بالطاعة، والعقوبات بالجرائم، فهل يقال: إنّ


(١) في هامش ش: «تاب».
(٢) ش، د: «نظر».
(٣) أخرجه مسلم (٢٧٤٩) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

<<  <  ج: ص:  >  >>