للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقيقة والشريعة، وهل يُمكِن حيوانًا أن يعيش في هذه الدُّنيا إلّا بوقوفه (١) مع الأسباب؟ فينتجع مساقطَ غَيْثِها ومواقعَ قَطْرِها، ويَرعى في خصبها دون جدبها، ويُسالمها ولا يُحاربها. وكيف وتنفُّسه في الهواء بها، وتحرُّكه بها، وسمعه وبصره بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهُداه بها، وسعادته بها، وفلاحه بها، وضلالُه وشقاؤه بالإعراض عنها وإلغائها. فأسعدُ النّاس في الدّارين: أقومُهم بالأسباب المُوصِلة إلى مصالحهما، وأشقاهم في الدارين: أشدُّهم تعطيلًا لأسبابهما.

فالأسباب محلُّ الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والنجاح والخسران. وبالأسباب عُرِف الله، وبها عُبِد، وبها أُطِيع، وبها تقرَّب إليه المتقرِّبون، وبها نال أولياؤه رضاه وجواره في جنّته، وبها نصر حزبُه دينَه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه، وبها انقسم النّاس إلى سعيدٍ وشقيٍّ، ومهتدٍ وغويٍّ، فالوقوف معها والالتفات إليها والنّظر إليها هو الواجب شرعًا، كما هو الواقع قدرًا.

ولا تكن ممّن غلُظ حجابه، وكثُفَ طبعه فيقول: لا نقف معها وقوفَ من يعتقد أنّها مستقلّةٌ بالإحداث والتّأثير، وأنّها أربابٌ من دون الله. فإن وجدتَ أحدًا يزعم ذلك، ويظنُّ أنّها أربابٌ وآلهةٌ مع الله مستقلّةٌ بالإيجاد وأنّها عونٌ لله يحتاج في فعله إليها، وأنّها شركاء له= فشأنك به، فمزِّقْ أديمَه، وتقرَّبْ إلى الله بعداوته ما استطعتَ. وإلَّا فما هذا النفي لِما أثبتَه الله؟ والإلغاء لما اعتبره؟ والإهدار لما حقَّقه؟ والحطُّ والوضع لما نصبه؟ والمحو لما كتبه؟ والعزل لما ولّاه؟ فإن زعمتَ أنّك تَعزِلها عن رتبة الإلهيَّة فسبحانَ الله! مَن


(١) ش، د: «موقوفه».

<<  <  ج: ص:  >  >>