فقولهم:«إنَّ التّوكُّلَ في طريق الخاصّة عمًى عن التّوحيد، ورجوعٌ إلى الأسباب» خطأٌ محضٌ، بل التّوكُّلُ حقيقةُ التَّوحيد، ولا يتمُّ التَّوحيدُ إلّا به. وقد تقدَّم في باب التّوكُّل بيانُ ذلك وأنَّه من مقامات الرُّسل، وهم خاصَّةُ الخاصَّة، وإنّما المتحذلقون المتنطِّعون جعلوه من مقامات العامَّة، ولا أخصَّ من رُسُلِ الله، ولا أعلى من مقاماتهم.
وقولهم:«إنّه رجوعٌ إلى الأسباب»، يقال: بل هو قيامٌ بحقِّ الأمر، فإنَّ الله سبحانه اقتضت حكمتُه ربطَ المسببات بأسبابها، وجعل التّوكُّل والدُّعاء من أقرب الأسباب التي تحصِّل المقصود. فالتّوكُّلُ امتثالٌ لأمر الله، وموافقةٌ لحكمته، وعبوديّةُ القلب، فكيف يكون مصحوبَ العلل؟ وكيف يكون من مقامات العامّة؟
وقوله (١): «لأنَّ الموحِّدَ قد رفض الأسباب كلّها»، يقال له: هذا الرَّفضُ لا يخرج عن الكفر تارةً، والفسق تارةً، والتّقصير تارةً؛ فإنّ الله أمرَ بالقيام بالأسباب، فإذا رفَضَ ما أمَره الله أن يقوم به فقد ضادَّ الله في أمره. وكيف يحلُّ لمسلمٍ أن يرفض الأسباب كلَّها؟
فإن قلتَ: ليس المرادُ رفضَ القيام بها، وإنّما المرادُ: رفضُ الوقوف معها.
قلتُ: وهذا أيضًا غير مستقيمٍ، فإنَّ الوقوفَ مع الأسباب قسمان:
وقوفٌ مأمورٌ به مطلوبٌ، وهو أن يقفَ معها حيث أوقفه الله ورسوله، فلا يتعدَّى حدودها ولا يقصِّرَ عنها، فيقفَ مع مراعاة حدودها وأوقاتها
(١) كذا هنا بدلًا من «قولهم» كما سبق وكما سيأتي، لأنَّ الكلام أصلًا لابن العريف.