والقولُ بإسقاط الأسباب هو توحيدُ القدريّة الجبريّة أتباعِ جهم بن صفوان في الجبر، فإنّه كان غاليًا في الجبر. وعندهم أنّ الله لم يخلق شيئًا بسببٍ (١)، ولا جعل في الأسباب قوًى وطبائع تؤثِّر، فليس في النّار قوّةُ الإحراق، ولا في السُّمِّ قوّةُ الإهلاك، ولا في الماء والخبز قوّةُ الرِّيِّ والتَّغذية، ولا في العين قوّةُ الإبصار، ولا في الأذن والأنف قوّةُ السَّمع والشَّمِّ؛ بل الله سبحانه يُحدِث هذه الآثارَ عند ملاقاة هذه الأجسام، لا بها. فليس الشِّبعُ بالأكل، ولا الرِّيُّ بالشُّرب، ولا العلمُ بالاستدلال، ولا الانكسارُ بالكسر، ولا الإزهاقُ بالذَّبح، ولا الطّاعاتُ والتَّوحيدُ سببًا لدخول الجنّة والنّجاة من النّار، ولا الشِّركُ والكفرُ والمعاصي سببًا لدخول النّار؛ بل يدخل هؤلاء الجنّةَ بمحض مشيئته من غير سببٍ ولا حكمةٍ أصلًا، وهؤلاء النّارَ بمحض مشيئته من غير سببٍ ولا حكمةٍ أصلًا!
ولهذا قال صاحب «المنازل»: (وهو أن لا يشهد في التَّوحيد دليلًا، ولا في التّوكُّل سببًا، ولا في النّجاة وسيلةً). بل عندهم صدور الكائنات والأوامر والنّواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجَّحَتْ مثلًا على مثلٍ بغير مرجِّحٍ. فعنها يصدر كلُّ حادثٍ، ويصدر مع الحادث حادثٌ آخر مقترنًا به اقترانًا عاديًّا، لا أنّ أحدهما سببٌ للآخر، ولا مرتبطٌ به. فأحدُهما مجرَّدُ علامةٍ وأمارةٍ على وجود الآخر، فإذا وُجد أحدُ المقترنين وُجِد الآخر معه، بطريق الاقتران العاديِّ فقط، لا بطريق التسبيب والاقتضاء. وهذا عندهم هو نهايةُ التّوحيد وغايةُ المعرفة.