ويجعل نظرَه والتفاتَه مقصورًا عليها. وأمّا إن التفت إليها التفاتَ امتثالٍ وقيامٍ بها وأداءٍ لحقِّ العبوديّة فيها وإنزالِها منازلَها، فهذا الالتفاتُ عبوديّةٌ وتوحيدٌ، إذا لم يشغله عن الالتفات إلى المسبِّب. وأمّا محوُها أن تكون أسبابًا، فقدحٌ في العقل والحسِّ والفِطَر. فإن أعرض عنها بالكلِّيّة كان ذلك قدحًا في الشَّرع، وإبطالًا له.
وحقيقةُ التّوكُّل: القيامُ بالأسباب، والاعتمادُ بالقلب على المسبِّب، واعتقادُ أنّها بيده فإن شاء منعَها اقتضاءَها، وإن شاء جعَلهَا مقتضيةً لضدِّ أحكامها، وإن شاء أقام لها موانعَ وصوارفَ تُعارِض اقتضاءَها وتدفَعه.
فالموحِّدُ المتوكِّلُ لا يلتفت إلى الأسباب، بمعنى أنّه لا يطمئنُّ إليها، ولا يرجوها، ولا يخافها، ولا يركَن إليها. ويلتفت إليها بمعنى (١) أنّه لا يُسقطها، ولا يهملها ويلغيها، بل يكون قائمًا بها، ملتفتًا إليها، ناظرًا إلى مسبِّبها ومُجريها.
فلا يصحُّ التّوكُّل عقلًا وشرعًا إلّا عليه وحده سبحانه، فإنّه ليس في الوجود سببٌ تامٌّ موجِبٌ إلّا مشيئته وحده، فهو الذي سبَّب الأسبابَ، وجعل فيها القوى والاقتضاء لآثارها، ولم يجعل منها سببًا يقتضي وحده أثره، بل لابدَّ معه من سببٍ آخر يشاركه، وجعل لها أسبابًا تضادُّها وتمانعها؛ بخلاف مشيئته سبحانه، فإنّها لا تحتاج إلى أمرٍ آخر، ولا في الأسباب الحادثة ما يبطلها ويضادُّها. وإن كان سبحانه قد يُبطل حكمَ مشيئته بمشيئته، فيشاء الأمر ثمَّ يشاء ما يضادُّه ويمنع حصوله، والجميعُ بمشيئته واختياره. فلا يصحُّ