للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكلُّ هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السّلف وعمق علومهم، وقلّة تكلُّفهم، وكمال بصائرهم. وتالله ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلّا بالتّكلُّف والاشتغال بالأطراف التي كانت همّةُ القوم مراعاةَ أصولها، وضبطَ قواعدها، وشدَّ معاقدها؛ وهممُهم مشمِّرةٌ إلى المطالب العالية في كلِّ شيءٍ. فالمتأخِّرون في شأنٍ، والقومُ في شأنٍ آخر (١)، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: ٣].

فالأولى بنا: أن نذكر منازلَ العبوديّة الواردة في القرآن والسُّنّة، ونشيرَ إلى معرفة حدودها ومراتبها، إذ معرفةُ ذلك من تمام معرفة حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله. وقد وصف تعالى مَن لم يعرفها بالجهل والنِّفاق، فقال: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: ٩٦]. فبمعرفةِ (٢) حدودها درايةً والقيامِ بها رعايةً، يستكمل العبدُ الإيمانَ، ويكونُ من أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

ونذكر لها ترتيبًا غيرَ مستحَقٍّ، بل مستحسنٌ (٣) بحسب ترتيب السّير الحسِّيِّ، ليكون ذلك أقربَ إلى تنزيل المعقول منزلةَ المشهود بالحسِّ، فيكونَ التّصديقُ به (٤) أتمَّ، ومعرفتُه أكمل، وضبطُه أسهل. وهذه فائدة ضرب الأمثال، وهي خاصَّةُ العقل ولبُّه. ولهذا أكثر تعالى منها في القرآن، ونفى


(١) لم يرد لفظ "آخر" في م، ش، ع. وقد استدرك أيضًا في ق.
(٢) ما عدا ع: "فمعرفة"، فاختلَّ السياق في ق، ج، واستدرك "بها" قبل "يستكمل" في هامش ل. ووقع "بها" في ش بعد "يستكمل"، وفي م بعد "العبد".
(٣) كذا في الأصل وغيره. يعني: "بل هو مستحسن".
(٤) "به" ساقط من ع.

<<  <  ج: ص:  >  >>